ما ذهب الأسد إلى طهران للتعزية برئيسي مع الوفود الرسمية ولا وفود التنظيمات الإيرانية بالعراق وسورية ولبنان… واليمن. بل مضى بعد أسبوع. وللتخفيف من عِلَل وأسباب تأخّره قيل لأنّ امرأته مريضة. وقد أُعلن عن ذلك قبل يومٍ من حادث الطائرة المفجع.
المعروف أنّ الأسد كأنّما ليس لديه علم بالصراع في غزة من ثمانية أشهر، وتدخّل المقاومات الإيرانية في كلّ المنطقة لمساعدة حماس. فهو ليس جزءاً من “وحدة الساحات” التي أعلن عنها زعيم الحزب من حوالى عام، أو أنّه لم يتحدّث بشيء في هذا الموضوع. وقد أنذره الإسرائيليون والأميركيون بأنّهم لن يقبلوا انحيازه. أمّا من جانبه فله كلّ الحقّ في أن يكونَ غاضباً عليهم جميعاً، فالإسرائيليون يغيرون بداخل سورية كلّ أسبوعٍ تقريباً، وما قُتل في الغارات عسكريون إيرانيون كبار وعناصر من الحزب فقط، بل قُتل أيضاً سوريون عسكريون ومدنيون. وهكذا وأيّاً تكن مشاعره ومشاعر السوريين تجاه ما يحدث في غزة، لا شكّ أنّه يشعر بتعاسةٍ شديدةٍ من هذه التبعيّة القاسية. فحتى في الجولان المحتلّ الذين يطلقون النار على المحتلّين هم من الحزب ومن جنوب لبنان. أمّا هو فما يزال وفيّاً لاتفاقية الفصل بين القوّات عام 1974.
“هويّة” وطنيّة جديدة: المقاومة
على أيّ حال، ذهب الأسد إلى طهران أخيراً للتعزية بمفرده وقابل المسؤولين وعلى رأسهم خامنئي. واللافت ما قاله له المرشد الأعلى. لقد ذكّره بأنّ سورية صارت لها خصوصية وتميّز وهويّة (جديدة) عندما اعتنقت المقاومة. وهو نهجٌ ما سارت فيه وعليه سورية إلا توطّدت وحدتها الوطنية، وارتفعت مقاديرها في المنطقة والعالم.
لا نعرف ماذا كان ردّ الرئيس السوري على الدعويَين: اعتبار المقاومة هويّةً أو تميّزاً لسورية، واعتبار هذا النهج موطّداً للوحدة الوطنية. محمد مخبر القائم مقام الرئيس المتوفّى قال ما يشبه هذا الكلام لوفود المقاومة العرب، عندما ذكر أنّ إيران تدخّلت في ثلاث دولٍ بالمنطقة لتغيير المسار والمصير (العراق وسورية ولبنان) بحيث تكون مقاومة العدوّ أولوية.
المعروف أنّ الأسد كأنّما ليس لديه علم بالصراع في غزة من ثمانية أشهر، وتدخّل المقاومات الإيرانية في كلّ المنطقة لمساعدة حماس. فهو ليس جزءاً من “وحدة الساحات”
لا أعرف بلداً أو دولةً صارت “المقاومة” هويّةً له وبخاصّةٍ سورية. فسورية عربية الهويّة والانتماء منذ مئة عامٍ وأكثر. والقوميون العرب (والبعثيون من رؤوسهم) يعتبرون الأُمويين هم الدولة القومية العربية الأولى في التاريخ، وقد كانت دمشق عاصمتها. والفلسطينيون يستطيعون اعتبار المقاومة أولوية لأنّ أرضهم محتلّة. أمّا سورية فقد قاتلت منذ الأربعينيات من القرن الماضي من أجل استعادة فلسطين العربية شأن الدول العربية الأُخرى. والتزامها العربي هو الذي حال دون مصالحتها مع إسرائيل مقابل استعادة الجولان، بخلاف ما فعلته دولٌ أُخرى، لكنّها ما تزال بدورها تناضل من أجل الدولة للفلسطينيين.
التغيير المذهبيّ في سورية
وهكذا ليست إيران هي التي فرضت على سورية مساراً ما كانت سورية تسير عليه. الذي فعلته إيران هو دعم بقاء الرئيس الأسد في السلطة. فلها عليه جمائل ولا شكّ. لكنّها لا تصل إلى تغيير هويّة البلاد بأيديولوجية وهميّة هي “المقاومة”، وتعني الضياع شبه الكامل.
منذ عام 2012 وفي القرار 2254 يعرض مجلس الأمن بقاء النظام مع إصلاحات وشراكات مع المواطنين في سورية، ودعم غير مشروط من دولٍ عربيةٍ رئيسية. وقد رفض النظام ذلك وفضّل الجيوش والميليشيات الإيرانية والروسيّة. وهويّة أو تميّز المقاومة يعنيان بالفعل محاولة تغيير ديمغرافيا سورية وبالتالي هويّتها: فحيّ السيّدة زينب وما حول الجامع الأموي صارا مدينةً ضخمةً للتغيير المذهبي. وكذلك مدينتا الميادين والبوكمال على الحدود مع العراق. وما بين القلمون حتى حمص، كلّها مناطق شاسعة تعسكر فيها الميليشيات العراقية واللبنانية والباكستانية والأفغانية المتأيرنة.
المقاومة في الحديث مع بشار الأسد هي منٌّ عليه ومنّة، ولا تعني غير السيطرة الإيرانية
المقاومة في الحديث مع بشار الأسد هي منٌّ عليه ومنّة، ولا تعني غير السيطرة الإيرانية. أو أنّ هذا التميّز المصطنع يأتي في مقابل بقاء الأسد في السلطة. ولا يخلو الأمر من اللوم والمأخذ لإعراض الأسد عن المشاركة الفعّالة في محور المقاومة الذي يقاتل بقيادة إيران. إحلال المقاومة هويّةً محلّ عروبة سورية ذُلٌّ وإذلالٌ وتبعيّة. والإيرانيون يدركون ذلك أكثر من أيّ أحدٍ آخر.
النكتة الثانية التي لا تؤيّدها الوقائع بل تنقضها هي قول خامنئي للأسد إنّ النهج المقاوم ثبّت الوحدة الوطنية السوريّة! طبعاً لا صحّة لهذا الاستنتاج بتاتاً، وأكبر دليلٍ على ذلك وضع سورية الحالي. لكنّ إيران ليست مسؤولةً وحدها عن التشرذم السوري. في سورية الآن ستّ دويلات و8 إلى 10 ملايين مهجَّر. هناك الدويلة الإيرانية والدويلة التركية والدويلة الروسية والدويلة الكردية – الأميركية، ودويلة القاعدة في إدلب وضواحيها، وأخيراً دويلة الأسد في الساحل والمدن.
إقرأ أيضاً: من خاتمي إلى رئيسي: الحريري وجلال الدين الروميّ ونبوءة المشنوق
إيران ليست مسؤولةً وحدها عن التشرذم، بل سياسات الأسد والتدخّلات الدولية والإقليمية بعد إيران وروسيا. ما انقسمت سورية بعد عام 1967 و1973 وقد خسرت فيهما الحرب، بل انقسمت بعد عام 2011 حين استعان النظام بالخارج، فتجرّأ عليه الآخرون، وصارت سورية العربية مطمعاً لكلّ قويّ أو مستقوٍ بعدما كانت أصلب دول بلاد الشام.
عرض الرئيس الأميركي بايدن خطته وخطة إسرائيل لوقف النار. وبدا الحماسيون والعرب الوسطاء أميل للموافقة فانذعر الإيرانيون بأن تخرج سلتهم بدون حمص. وهكذا خرج خامنئي ليقول لولا إيران ومبادرتها لإنشاب الحرب لفازت الخطة الأميركية للتطبيع وسيطرة إسرائيل على غرب آسيا والشرق الأوسط! وأرسلوا وزير الخارجية الإيراني بالوكالة إلى بيروت للتشاور مع نصر الله كيف يتجهون وهل يتوقف إطلاق النار بدون إرادتهم فلا يكسبون شيئاً؟! وهذا الذي خاف منه بري فصرح للجمهورية أنه بمجرد وقف النار في غزة تتوقف الحرب في الجنوب ويعود هوكشتاين. كانت إيران في أول الحرب تتبرأ من كل شيئ مما اضطر نصر الله للقول إنه مستعد للقتال وحده! أما الآن فصار الإيرانيون مسؤولين عن كل شيئ؛ بما في ذلك هوية سوريا وانتماءها!
اللهمّ لا شماتة. وهل يشمت الإنسان ببلده وبني قومه الذين تقع عليهم أعباء القتل والدمار؟! منذ عام 2008 يعيّرنا الإيرانيون بأنّهم احتلّوا أربع عواصم عربية تاريخية. وكلّ ذلك بداعي المقاومة. إنّما من يقاوم الشعب السوري؟!
لا تتغيّر الهويّة ولا تتصدّع الوحدة الوطنية. لكنّ الواقعتين إمّا أن تكونا سيّدتين أو تكونا مغلوبتين على أمرهما.
لمتابعة الكاتب على X: