غالباً ما تترك حوادث دراماتيكية غير محسوبة تأثيرها على مجرى الأحداث. غياب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بسبب تحطّم المروحية سيترك أثره ولو في الأسابيع المقبلة. فاستقرار الحكم في إيران سيخضع لحسابات الملفّات المعقّدة التي تواجهها بالداخل وفي علاقاتها الخارجية، وأهمّها حرب غزة وتفرّعاتها وملفّها النووي.
في انتظار مهلة الخمسين يوماً لانتخاب رئيس إيراني جديد، فإنّ الدول المعنيّة، وخصوصاً أميركا وإسرائيل، ستترقّب المعادلة التي سترسو عليها طهران. ففي أحيان كثيرة، تشكّل الأحداث المأساوية مناسبة لتعديل التوجّهات ولو تكتيكياً. فهل يحصل ذلك بعد سقوط مروحية رئيسي وعبد اللهيان وصحبهما إثر زيارة الجارة، التي تلتبس العلاقة معها بين الخصومة وحسن الجوار، أذربيجان؟
الفترة الانتقاليّة واستمرار السّياسات السّابقة
في إيران مؤسّسات دولة عميقة راسخة قادرة على الانتظام. وفي الفترة الانتقالية يفترض أن تستمرّ السياسات التي رسمتها طهران قبل سقوط المروحية التي أقلّت الرجلين من أذربيجان. وهذا يشمل الموقف من المواجهات مع إسرائيل في جنوب لبنان وتوجّهات الحزب. فطهران استندت إلى جملة مبادئ بموازاة حرب غزة والجنوب:
– الضغط لأجل وقف الحرب على غزة لحماية حليفتها “حماس”.
– عدم التورّط المباشر بالحرب بسبب غزة أو جنوب لبنان بعد الحشد العسكري الأميركي الضخم لمساندة الدولة العبرية منذ تشرين الأول الماضي. وهذا استدعى ضوابط لسلوك الحزب العسكري بحيث يسير على إيقاع طهران.
– تحريك الأذرع البعيدة، العراقية واليمنية الحوثيّة، لتجنيب الحزب أنواع العمليات التي تستدرجه إلى توسيع الحرب. وتفهُّم نأي الحليف السوري بنفسه عن مشاغلة إسرائيل ومساندة غزة، لأسباب روسية وعربية.
– “الانحناء” أمام عاصفة الاستهداف الإسرائيلي للوجود الإيراني في سوريا كما حصل بعد قصف القنصلية الإيرانية في دمشق.
– الإبقاء على خطوط التواصل مع الإدارة الأميركية لصيانة التفاهمات تحت الطاولة. وقد استفاد منها عهد رئيسي ماليّاً لدعم الاقتصاد المنهك. فإدارة بايدن غضّت النظر عن العقوبات على بيع النفط الإيراني وأفرجت عن أرصدة مقابل إخلاء “رهائن” أميركيين.
غياب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بسبب تحطّم المروحية سيترك أثره ولو في الأسابيع المقبلة
غياب عبد اللهيان، المقرّب من “حرس الثورة”، والمساهم في هندسة التواصل مع واشنطن يتطلّب بديلاً مماثلاً. وربّما احتاج الأمر إلى بديل أكثر انفتاحاً، إذا كان الحدث المأساوي فرصة لاتجاه كهذا. وقد عُيّن أمس وزيراً للخارجية مساعدُ عبد اللهيان، علي باقري كنّي، الذي كان يده اليمنى في ملفّ التفاوض مع أميركا.
حرب الجنوب الخطيرة
ما يعني الحزب، كأقوى الأذرع، حاجته إلى المزيد من العقلانية الإيرانية حيال ضخامة خسائره في الجنوب في المرحلة المقبلة. فخسائر المواجهة وتسبّبه بالشغور الرئاسي أضعفاه على المسرح اللبناني على الرغم من قوّته العسكرية المهيبة من إسرائيل، وسيطرته على القرار السياسي اللبناني.
المصادر الدبلوماسية الغربية تصنّف المواجهات اليومية المتصاعدة في الجنوب بأنّها “حرب فعليّة دائرة وليست مجرّد مناوشات” بين إسرائيل والحزب. وعلى هذا الأساس سعت بعض الدول إلى منع امتدادها نظراً إلى مفاعيلها التدميرية التي يمكن أن تطال لبنان.
يُبقي الجانبان الفرنسي والأميركي العين على وتيرة التصعيد الذي يشهده الجنوب، خشية انفلات الأمور وفق المظاهر والمؤشّرات التي يشهدها الميدان. فنبرة اللغة التهديدية من قبل المسؤولين الإسرائيليين ترتفع نظراً إلى التعليقات الإعلامية عن فشل الجيش في ضمان أمن المنطقة الشمالية، وتصاحبها احتجاجات مستوطني الجليل وغيره الذين أخلتهم السلطات من منازلهم، ضدّ ما سمّوه إهمال الحكومة لأوضاعهم منذ 8 تشرين الأوّل. خسائر هؤلاء من الدمار الذي يسبّبه قصف الحزب ومن تلف مواسمهم الزراعية لا تقلّ كثيراً عن خسائر الجنوب. ركّزت صحيفة “معاريف” العبرية على قوّة ردود الحزب على الشمال، منتقدة موقف حكومة نتنياهو حيال النازحين. وذكرت أنّ عددهم زهاء سبعين ألفاً. واعتبرت أنّ “المشكلة ليست تكتيكية فحسب، بل إنّها تكشف عن ضعف إسرائيلي وسابقة خطيرة للمستقبل”. وتساءلت عن سبب تصعيد “الحزب” في استخدامه أسلحة جديدة وكثافة قصفه.
الإبقاء على خطوط التواصل مع الإدارة الأميركية لصيانة التفاهمات تحت الطاولة. وقد استفاد منها عهد رئيسي ماليّاً لدعم الاقتصاد المنهك
هل اهتزّت قاعدة لجم توسيع الحرب؟
عكست الصحيفة ما يدور من نقاش في أروقة وزارة الدفاع الإسرائيلية، لا سيما بعد إعلان رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي أنّ الجيش قادر على التعامل مع جبهة الشمال. وهو كلام يوحي بالاحتمالين، أي بالقدرة على توسيع الحرب ضدّ الحزب، أو على إبقاء المواجهات بوتيرتها الراهنة. لكنّ “معاريف” اعتبرت أنّ “قرار الحكومة الإسرائيلية هو أنّ ساحة غزة هي الساحة الرئيسية ولبنان هو الساحة الثانوية.. لقد حان الوقت لتحويل الأضواء إلى الشمال”.
يطرح ذلك سؤالاً عمّا إذا كانت القاعدة المعتمدة، القائمة على عدم رغبة إسرائيل وإيران والحزب في توسيع الحرب ما زالت سارية المفعول. فهذه القاعدة معمول بها منذ فتح “الحزب” جبهة المساندة لغزة وإشغال الجيش الإسرائيلي. وهي تعني أنّ إيران تمسك بقرار توسيع الحرب وتحول دون هذا الخيار من الجهة اللبنانية. وأميركا تمارس رقابتها على أيّ جنوح إسرائيلي نحو شنّ هجوم شامل هدّدت به مرّات عدّة.
الثّمن لإسرائيل رفح أم الجنوب؟
قيل الكثير في التكهّنات حول أسباب التصعيد الذي شهدته الجبهة في الأسبوعين الماضيين، وبعضها يتعلّق بمجريات المواجهة الإيرانية الإسرائيلية:
1- إنّ سبب التصعيد بدء الجيش الإسرائيلي اقتحامه لرفح وسعيه إلى قضم المدينة تدريجاً، بموافقة أميركية ضمنيّة. الموافقة هي المقابل الأميركي لالتزام تل أبيب الردّ المدروس والمحدود على إيران حين قصفت أصفهان في 19 نيسان الماضي. أي أنّ إجازة اقتحام رفح هي ثمن التزام تل أبيب الضوابط مع إيران. ولو تمّ الأمر تحت غبار التصريحات الأميركية المعترضة بحجّة تجنّب إيقاع المزيد من الضحايا المدنيين، لكنّ الأخيرة تعارض إضعاف “حماس” عبر عملية رفح، وتردّ عليها بإجازة تصعيد الحزب ردوده من لبنان، بالتزامن مع تصعيد الحوثيين من اليمن.
2- في مقابل التزام إسرائيل الضوابط الأميركية في ضربتها لأصفهان قد تحصل على إجازة من واشنطن لتوجيه ضربة لـ”الحزب” في لبنان، حتى لو أشعلت حرباً واسعة لا يمكن لإدارة الرئيس جو بايدن إلا أن تساندها فيها، بمواجهة قدرات “الحزب” التسليحيّة.
في انتظار مهلة الخمسين يوماً لانتخاب رئيس إيراني جديد، فإنّ الدول المعنيّة، وخصوصاً أميركا وإسرائيل، ستترقّب المعادلة التي سترسو عليها طهران
استئناف اللقاءات الأميركيّة الإيرانيّة
سواء صحّ أيّ من الاحتمالين أو كلاهما معاً، فإنّ ذلك كان حافزاً لاستئناف الاتصالات الأميركية الإيرانية.
حسب موقع “أكسيوس” الإخباري الأميركي شهد الأسبوع الماضي محادثات غير مباشرة بين الدولتين في العاصمة العُمانية مسقط. ونسب “أكسيوس” إلى مصدرين أميركيَّين قولهما إنّها “ركّزت على توضيح عواقب تصرّفات إيران ووكلائها في المنطقة، ومناقشة المخاوف الأميركية بشأن وضع البرنامج النووي الإيراني”.
من جهته، أكّد رئيس البعثة الإيرانية في نيويورك أمير إيرواني حصول اللقاءات قبل يومين، وأنّها “ليست الأولى ولن تكون الأخيرة”.
بعد تسريب أنباء المحادثات أوضح مسؤولون أميركيون لمحطة “الحدث” أنّ الحزب وإسرائيل لا يريدان الحرب المفتوحة في لبنان. فالجبهة ما زالت تحت السيطرة. وقال المسؤولان الأميركيان إنّ إيران أكّدت أنّ الحزب خطّ أحمر ولن تقف مكتوفة الأيدي إذا شنّت إسرائيل حرباً عليه.
هذه الوقائع حصلت قبل أقلّ من أسبوع على مقتل رئيسي وعبد اللهيان. والمراهنة هي على أن تبقى صالحة خلال المرحلة الانتقالية. إلا إذا شاء أحد طرفَي القتال في الجنوب التهوّر.
إقرأ أيضاً: المرشد والفستان… مهسا أميني تُبعَث من جديد؟
لمتابعة الكاتب على X: