درّسنا الشيخ حسن خالد عام 1964 بالمعهد الديني ببيروت. ومنذ ذلك الحين تابع جيلي كما تابع كثيرون جداً من البيارتة واللبنانيين والعرب أعماله في إنشاء المؤسّسات والمرافق بدار الفتوى والأوقاف والمحكمة الشرعية، والعلائق بالجهات الدينية والسياسية بلبنان والعالم العربي. وبسبب الأدوار التي لعبها في تجديد الجهاز الديني، وفي الوساطات من أجل إنهاء الحرب، وفي العناية بالناس في النزاع الداخلي، صار شخصيةً محبّبةً حصلت على ثقة مجتمع المسلمين. حسن خالد شخصيّةٌ لا تُنسى.
تعـرّفنا على الشيـخ حسـن خالد عـام 1964 فيـما أذكر، وكنّا طلّاباً في المعهد الديني (= الكلّية الشرعية أو أزهر لبنان). وكان الشيخ قاضياً شرعياً ودرّسنا مادّة التوحيد أو أصول الدين لمدّة سنتين. وكانت تلك السنوات (1963-1966) سنوات التحدّي والبروز بالنسبة له. فقد تقدّمت السنّ بالمفتي محمد علايا، وظهر تنافُسٌ على المنصب بين تيّارين: التيّار السائد في المحاكم الشرعية والأوقاف، والتيار “الإصلاحي” الذي تدعمه مصر عبر سفيرها عبد الحميد غالب ومرشّحه للإفتاء القاضي حسن خالد.
عندما انتُخب أخيراً عام 1966 مثّل ذلك انتصاراً لجهةٍ على أُخرى في نوايا الإصلاح ومشروعاته وبناء المؤسّسة الدينية. وقد أعلن عن ذلك الشيخ محمد فهيم أبو عبية رئيس بعثة الأزهر وكان خطيباً مِصْقعاً نقصد جامع المجيديّة بوسط بيروت لسماع خطبة الجمعة عنده.
محمد حسنين هيكل… في “الأهرام”
مع ذلك ما انتبهنا ونحن صغار إلى أهميّة ما حدث إلّا من خلال أمرين: مقالة لمحمد حسنين هيكل بـ”الأهرام” عن تدخّل مصر للإصلاح الديني في بيروت ولبنان، ثمّ بداية التنافس بين فريق المفتي الجديد وفريق الرئيس صائب سلام على زعامة المقاصد.
زار المفتي الجديد مصر مطلع عام 1967 فاستُقبل استقبالاً حافلاً وخطب بالأزهر وقابل الرئيس جمال عبد الناصر مرّتين. وجمعنا وكنّا قد ذهبنا للدراسة بالأزهر وقال لنا إنّ الزمان الجديد هو زمان المؤسّسات المستنيرة التي يصنعها التفكير الجديد، وتخرج من الفساد والإفساد، وتتأهّل لخدمة المسلمين في الشؤون الدينية والاجتماعية وحتى السياسية من خلال المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الذي هو بمنزلة البرلمان للمسلمين بحسب المرسوم الاشتراعي رقم 18 الخاصّ بذلك.
زار المفتي الجديد مصر مطلع عام 1967 فاستُقبل استقبالاً حافلاً وخطب بالأزهر وقابل الرئيس جمال عبد الناصر مرّتين
توفّي المفتي الشيخ توفيق خالد (وحسن خالد ليس قريباً له) سنة 1951، فانتقل الشيخ محمد علايا من رئاسة المحكمة الشرعية إلى الإفتاء، وتراجعت مواقع دار الفتوى واهتماماتها لما يزيد على عقدين. وهما العقدان الأخطران في تاريخ لبنان الحديث بدءاً برئاسة الرئيس شمعون وأحداث 1958 ومجيء فؤاد شهاب للرئاسة وتوثّق العلاقة بين شهاب وعبد الناصر فظهور التنظيمات الفلسطينية المسلّحة وبدء الكفاح المسلّح عام 1965 انطلاقاً من لبنان، إلى وفاة عبد الناصر عام 1970.
لماذا اختيرت دار الفتوى لتكون بؤرة الإصلاح في الشّأن السُّنّيّ؟
هذا ممّا لا مجال للتعرّض له في هذا السياق. لكنّ المفتي الجديد مضى في تجديد المؤسّسات التابعة لدار الفتوى بالفعل. ظهرت إدارة جديدة للأوقاف، كما اختير قضاة شرعيون جدد. وصارت لدار الفتوى مديرية عامّة. وأصدر المفتي مجلّة الفكر الإسلامي وكان محرّرها الشيخ عبد الله العلايلي.
عندما عدتُ مع زملائي من مصر عام 1970 عملتُ في المجلّة، ونظّمت دار الفتوى ندوات علمية ومؤتمرات عن العلمانية والإسلام وعن البنوك الإسلامية. كما أنشأ المفتي خالد كلّية الشريعة (سمّيت في البداية كلّية الدعوة). وصارت دار الفتوى بيئةً للحوار بين المسلمين والمسيحيين. وأُقيم بعد مدّة صندوق الزكاة بإدارة عالية الكفاءة.
ومع أنّ الزمان تغيّر بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، فإنّ الموقع الجديد لدار الفتوى استمرّ في التنامي، وبخاصةٍ مع انفجار النزاع الداخلي وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وما يزال خطاب المفتي في الملعب البلدي عام 1983 شهيراً في نطاق ترتيبات ومطالب ما بعد الاجتياح.
توفّي المفتي الشيخ توفيق خالد في أواخر الأربعينيات، فانتقل الشيخ محمد علايا من رئاسة المحكمة الشرعية إلى الإفتاء، وتراجعت مواقع دار الفتوى واهتماماتها لما يزيد على عقدين.
بيد أنّ الأبرز في إنجازات المفتي هو إعلان الثوابت العشر من دار الفتوى بمشاركة الشيخ محمد مهدي شمس الدين وشيخ عقل الطائفة الدرزية. وفي ثمانينيات القرن الماضي ووسط الضغوط السورية ظهر “المجلس الإسلامي” الذي كان يجتمع بدار الفتوى برئاسة المفتي كلّ أسبوع ويصدر بياناً قيل إنّ الرئيس تقيّ الدين الصلح كان هو الذي يكتبه بالتشاور مع نهاد المشنوق. وبسبب شخصية المفتي القويّة، ما شعر المسلمون السنّة بتراجع دور الطاقم السياسي السنّي في إدارة الشأن العامّ، وفي المفاوضات من أجل إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية. وفي تلك الفترة بين عامي 1983 و1988 ظهر دور الرئيس رفيق الحريري الذي ساعد في انتظام العلاقة بين دار الفتوى والمملكة وسورية.
الاغتيالات في 1987
في عام 1987 جرى اغتيال الشيخ الدكتور صبحي الصالح صديق المفتي ونائب رئيس المجلس الشرعي الأعلى بدار الفتوى، وأحد كبار علماء المسلمين. ثمّ في عام 1989 جرى اغتيال المفتي الشيخ حسن خالد، وهو في أوج عطائه وتألّقه. فكان الاغتيال المشين أكبر صدمةٍ نزلت بالمسلمين وبيروت على كثرة ما نزل ببيروت في الثمانينيات بالذات، والبيارتة يسمُّونه بالدارجة: “المفدي” حتى اليوم. وما يزال كبارهم وكهولهم يذكرونه باعتباره الذي أعاد دار الفتوى إلى قلب الحدث اللبناني والعربي والإسلامي، وكانوا يعتبرونه مرجعهم في كلّ كبيرةٍ وصغيرة.
طوال ثلاثين عاماً وأكثر دأبتُ على الاهتمام، مع عشراتٍ غيري، بتذكّر “المفدي” خالد بالكتابة عنه في ذكرى اغتياله. وما أزال، وأنا أكتب منذ قرابة خمسين عاماً، أجد صعوبةً كبيرةً في تشخيص شخصيّته، أو بالأحرى: كيف تظهر الشخصيات الكبيرة، ولا شكّ أنّ حسن خالد منها.
اغتيال المفتي الشيخ حسن خالد، وهو في أوج عطائه وتألّقه. كان أكبر صدمةٍ نزلت بالمسلمين وبيروت على كثرة ما نزل ببيروت في الثمانينيات بالذات
نحن المشايخ لسنا سياسيّين ولا ينبغي أن نكون
يمكن القول إنّه اجتمع فيه وله أمران: الفرصة والكفاءة. هو بالفعل، وأنا أعرف ذلك جيّداً، رجل دينٍ بارز بذهنيّته ودوافعه. أمّا فهمه العميق الواسع للنظام اللبناني وللشأن العامّ فقد استتبَّ له بسرعةٍ مشهودة. لقد ظلّ على آخِر حياته يقول لنا: “نحن المشايخ لسنا سياسيين ولا ينبغي أن نكون”.
وكنّا نمزح معه: “لكنّك تمارس العمل السياسي كلّ الوقت”.
وكان يجيب جادّاً: “والله لو انتهت الحرب لما قلت بعدها كلمةً في السياسة. إنّها مسؤولية ضرورية لكنّها كريهة ليس لأنّ السياسيين لديهم مشكلة أخلاقية كما يقال. بل لأنّه عملٌ شديد المشقّة بسبب اتّصاله بحياة الناس ومصائرهم. عندما يأتي إليّ الناس البسطاء أشعر بخجلٍ شديدٍ لأنّهم يؤمّلون بي ما لا أستطيع فعله. أمّا عندما يأتي إليّ السياسيون فيهولني طموحهم وأملهم بل وجرأتهم. ماذا تريد أن تعمل يا رضوان؟”.
وقلت: “أريد أن أكون أستاذاً بالجامعة وكاتباً”.
فيسارع للقول: “هدفٌ سهل وأهمّ ما فيه الحرّية التي لا يملكها رجل الدين ولا السياسي”.
لقد عرفت بالطبع خلال حياتي الأكاديمية وإصداري للكتب والمجلّات مئات الشخصيات العلمية والسياسية. ويشعر الواحد منّا أنّ الكثيرين من الزملاء والأساتذة يلمعون مثل الضوء الساطع ثمّ يختفون من الحياة ومن الأضواء. وما كان المفتي خالد المعلِّم ورجل الدين ورجل الشأن العامّ والإنسان ضوءاً ساطعاً. لكنّه حتى اليوم بعد خمسة وثلاثين عاماً على استشهاده ظلَّ نوراً هادئاً وشخصيةً لا تُنسى بطلعته البهيّة. وعينيه المؤثّرتين وعمامته البيضاء وحبّه للسلام وللبنان. قد لا يلفت الانتباه لأوّل وهلة، لكنّه يتغلغل في أعماقك ما إن تتأمّله عن كثب وتصاحبه ولو عن بُعد.
حسن خالد شخصيّةٌ لا تنسى.
إقرأ أيضاً: سياسيّو لبنان: “الأطفال الذين يلعبون بالرمل”؟
لمتابعة الكاتب على X: