بايدن يخاصم نتنياهو انتخابيّاً

مدة القراءة 6 د

لطالما تفاخر الرئيس الأميركي جو بايدن بدعمه المطلق لإسرائيل. اشتهر الرجل بموقف أطلقه حين كان “شيخاً” في مجلس الشيوخ عام 1986 قال فيه إنّه “لو لم يكن هناك إسرائيل لوجب اختراعها”. وكرّر الفخر في مناسبات عدّة بأنّه صهيوني. وحين تعرّضت “إسرائيلهُ” لعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، زحف قبل وزرائه نحو إسرائيل للتعبير عن أعلى درجات الدعم والتأييد. كان ذلك مقدّمة لجسر جوّي “جديد” يدفع بالأسلحة الأميركية لإحراق كلّ شيء في غزّة.

 

أعطت واشنطن بذلك ضوءاً أخضر لكلّ المنظومة الغربية لإظهار دعم بلا حدود. بدا أنّ هذا الغرب رأى بوضوح مجهريّ مجريات 7 أكتوبر وأغلق عينيه تماماً عمّا جرى في 8 و9 و10 وكلّ الأيام التالية. ولم يتوقّف هذا الغرب عن “عماه” إلا بعدما أظهرت واشنطن ببطء أعراض تحسّن في حاسة النظر. ارتقى موقف وزير الخارجية أنتوني بلينكن من مرحلة “أنا يهودي” إلى مرحلة التسويق في منطقتنا لبضاعة أُعيد اكتشافها: “حلّ الدولتين”.

شيك أميركيّ على بياض لإسرائيل

أعطت واشنطن وكلّ العواصم الغربية التي انفطر قلبها حزناً على مصاب إسرائيل شيكاً على بياض لكي يمارس بنيامين نتنياهو وحكومته ضدّ غزّة أقسى فنون الرعب والدمار. رأت العواصم أنّ من حقّ إسرائيل الانتقام ومن حقّها القضاء على “حماس” حتى لو اقتضى الأمر إفناء القطاع حجراً وبشراً، ولسان حالها يقول: “افعلوها بسرعة”.

لم يستطع بنيامين نتنياهو وصحبه تقديم الإنجاز الموعود قبل أن تستفيق “الضمائر”. تمدّد حراك شوارع لندن وباريس ومدريد.. صوب جامعات الولايات المتحدة. تغيّر شيء في أميركا. غير أنّ ارتفاع النبض المجتمعيّ المُدين لإبادة تجري على الهواء مباشرة لم يحرّك الشيء الكثير داخل مكاتب البيت الأبيض وأروقة الكونغرس. حتى الجناح اليساري التقدّمي داخل الحزب الديمقراطي تردّد، وتلعثم زعيمه بيرني ساندرز، قبل أن ينتهي، أخيراً، إلى موقف شاجب للحرب وناقد لموقف الإدارة التي يتولّاها حزبه.

على بايدن أيضاً التأكّد من استمرار دعم جناح ساندرز اليساري له كما فعل في انتخابات عام 2020

تأخّر “بيبي” واقتربت الانتخابات الرئاسية الأميركية. الموعد في 5 تشرين الثاني المقبل. وكلّما اقتربت أميركا من صناديق الاقتراع ضاقت الفجوة بين الديمقراطي بايدن والجمهوري دونالد ترامب. وفي التقارير الدقيقة على طاولة الرئيس المرشّح، أنّ مئات الأصوات وربّما عشرات ستحسم السباق في بعض الولايات المعروفة بتأرجحها. فما العمل؟

دبّر البيت الأبيض في 8 أيار الجاري مقابلة مع شبكة CNN الصديقة لبايدن. كان على الرئيس الأميركي أن يمرّر بضعة مواقف. كان مطلوباً أن ينفخ المرشّح الديمقراطي بسلسلة تحوّلات من شأنها خلال الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات أن تعيد إقناع شريحة أساسية من ناخبيه بالتصويت له من جديد. سبق لمسلمي ميشيغن أن عبّروا في الانتخابات التمهيدية عن مقاطعتهم لمرشّحهم من دون الوعد بتحويل أصواتهم إلى ترامب. لكن حتى لو لم يفعلوا ذلك فستسقط الولاية لمصلحة المرشّح الجمهوري. ينسحب الأمر على تأرجح ولايات أخرى.

بايدن

على بايدن أيضاً التأكّد من استمرار دعم جناح ساندرز اليساري له كما فعل في انتخابات عام 2020. يدرك بايدن ما فعله هذا الجناح قبل ذلك حين رفض دعم المرشّحة هيلاري كلينتون عام 2016 وأفشل سعيها ويتحمّل “بفخر” مسؤولية إسقاطها. وعلى بايدن أيضاً جذب الناخبين المنتمين إلى مجتمع الأقلّيات العرقية وكلّ من هو غير “أبيض”. كلّهم أظهروا دعماً لغزّة وكأنّها قضيّة يكتشفونها عذراً لسخطهم على أيّ شيء هم ساخطون عليه لدى نخب واشنطن.

بايدن يخاصم نتنياهو

قرّر بايدن “مخاصمة” نتنياهو لدواعٍ انتخابية بحتة. أدرك نتنياهو ذلك فخرج يبشّر باستمرار حرب (في رفح) لا يريدها أن تقف. خرجت حكومة الحرب حوله، ولدواعٍ انتخابية أيضاً، تدعم “قصيدة” نتنياهو المضجرة بشأن “القتال بأظافرنا”. كلّ العالم يعرف أنّ كارثة غزّة ارتُكبت بأظافر أميركية وأنّ إسرائيل لا تقوى على ارتكاب الكبائر بدون مخالب حليفها الكبير. يكفي رصد كلّ كلمة نطقها بايدن في رسم تهديده: سأمنع إرسال قنابل الموت إذا قامت إسرائيل بعملية “كبرى” في رفح.

قرّر بايدن “مخاصمة” نتنياهو لدواعٍ انتخابية بحتة أدرك نتنياهو ذلك فخرج يبشّر باستمرار حرب (في رفح) لا يريدها أن تقف

ما هو تعريف كلمة “كبرى”؟ في ذلك اجتهاد تقرّره السياسة. فحرب غزّة التي استدعت آلاف الأطنان من قنابل أميركا لم تكن في أعراف سيّد البيت الأبيض حرباً كبرى وجب منع القنابل عنها. وفي موقف بايدن الأخير، وبشكل غير مباشر، إجازة لنتنياهو وصحبه بالمضيّ بعمليات لا تكون “كبرى” تكمل إزهاق الأرواح وتهجير مئات الآلاف وتموضع بضعة دبّابات على معبر رفح. وإذا كان بايدن احتاج إلى رفع راية “إنذار” ضدّ إسرائيل لغايات انتخابية، فإنّ نتنياهو وبني غانتس ويوآف غالانت وغادي أيزنكوت وغيرهم يخوضون حربهم من أجل انتخابات مقبلة.

يحبّ بايدن إسرائيل ولا يحبّ نتنياهو. سبق لنتنياهو أن فاقم خلافه مع الرئيس الأسبق باراك أوباما وتحدّاه في آذار 2015 في عقر داره في واشنطن. استقبله الكونغرس الأميركي. استمع إلى خطابه وقاطعه مراراً بالتصفيق والوقوف، فيما كان أوباما يراقب الحدث على شاشة تلفازه. غادر نتنياهو بعد ذلك ولم يكلّف نفسه طلب موعد لمقابلة رئيس البلاد. استاء أوباما واستاءت الإدارة وسخط بعضها من هذا التحقير الذي ارتكبه رئيس وزراء إسرائيل بتواطؤ كامل من الكونغرس. كان حينها بايدن يتبوّأ منصب نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية.

في بريطانيا أيضاً يوجد عامل الانتخابات أصيب حزب المحافظين الحاكم بهزيمة في الانتخابات المحلّية الأخيرة التي هي الأسوأ منذ 40 عاماً

لم تصدّق إسرائيل “إنذار” بايدن. أكّدت واشنطن بعدها أنّ التهديد يقتصر على شحنة معيّنة من قنابل الموت دون غيرها. سارعت لندن إلى إرسال رسالة أميركية عُبِّر عنها بلسان بريطاني. خرج وزير خارجية لندن، ديفيد كاميرون، الذي سبق أن وعد بالاعتراف بدولة فلسطينية حتى قبل انتهاء أيّ مفاوضات، يطمئن إسرائيل إلى أن لا مفاعيل عدوى ستمنع شحنات بريطانيا عن إسرائيل.

إقرأ أيضاً: كيف نفذ نتنياهو ما طلبه بايدن؟.. عن جيل ونانسي وإفطار البيت الأبيض

في بريطانيا أيضاً يوجد عامل الانتخابات. أصيب حزب المحافظين الحاكم بهزيمة في الانتخابات المحلّية الأخيرة التي هي الأسوأ منذ 40 عاماً. خسر المحافظون نحو 470 مقعداً و10 مجالس محلّية على الأقلّ. حتى إنّ عمدة لندن العمّالي المسلم صادق خان حطّم الرقم القياسي بالفوز بولاية ثالثة. تذكّر حزب العمّال بعد أشهر من حدث “الطوفان” أن يتوقّف عن الدعم الأعمى لإسرائيل ويذهب لمناكفة كاميرون وحزبه، فطالب لندن بوقف تسليح إسرائيل. في بعض التفسيرات أنّ غزّة كان لها دور ما، وربّما مهمّ، في هذا الفوز للعمّال وتلك الخسارة للمحافظين على الرغم من استنتاج العمّاليين أنّهم خسروا في هذه الانتخابات، على الرغم من ذلك، كثيراً من أصوات الناخبين المسلمين. ودائماً فتّش عن مفاعيل غزّة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…