منذ وصول رجب طيب إردوغان إلى السلطة، أخذت العلاقة التركية الإسرائيلية طابعاً خاصّاً، لا سيما أنّ الحزب الآتي من رحم الإسلاميين الأتراك، على الرغم من إدراكه لحساسيّة العلاقة مع الدولة العبرية، ومحاولاته الحثيثة لإبقاء التواصل معها، جعل الثقة بين الطرفين أقلّ ممّا كانت عليه في ظلّ أنظمة تركيّة سابقة، إذ كانت تهتزّ عند أيّ عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين واللبنانيين، بدءاً من حرب تموز 2006 وصولاً إلى العدوان الأخير على غزة.
كانت سفينة “مرمرة” التركية التي حاولت كسر الحصار على قطاع غزة، بمنزلة الموجة التي أغرقت العلاقة التركية الإسرائيلية في مياه الأزمة العميقة، حين تعرّضت لهجوم إسرائيلي في المياه الدولية أدّى إلى مقتل 9 ناشطين معظمهم من الأتراك. كما كان للمسلسلات الدرامية التي جعلتها أنقرة سلاحاً ثقافياً دور في تعميق الحُفر في طريق التواصل مع تل أبيب، إذ اعتُبرت مسلسلات مثل “وادي الذئاب” و”صخرة حجر” تحريضاً “فنّياً” كاملاً ضدّها.
على الرغم من محاولات إردوغان وسعيه إلى إعادة ترميم العلاقات منذ عام 2022، في محاولة لتبييض صفحته مع البيت الأبيض وتصفير المشاكل مع دول الجوار، حدث “طوفان الأقصى” الذي أعاد قلب الأمور رأساً على عقب.
إردوغان يجمع ما لا يُجمع
بعد أسابيع من اندلاع الحرب، أطلق إردوغان تصريحات برّأت “حماس” من تهمة الإرهاب، ووصمت إسرائيل بالعدوان والإجرام، وتوعّد بمحاكمتها دولياً، لكنّه لم يصل إلى حدّ التلويح بقطع العلاقة أو تجميدها. وظلّ التطبيع الاقتصادي بين أنقرة وتل أبيب على وتيرته العالية، إلى أن تسبّب استفحال العدوان الإسرائيلي وهمجيّته في غزة بمشكلة داخلية لإردوغان أدّت إلى أزمة ثقة بينه وبين جمهوره الإسلامي المحافظ، الأمر الذي تسبّب له بهزيمة قاسية في الانتخابات المحلّية وبروز حزب الرفاه الجديد “الإربكانيّ” على حساب العدالة والتنمية “الإردوغانيّ” تحت شعار الدفاع عن فلسطين وعدم ترك غزة والغزّيّين تحت المقصلة الإسرائيلية.
منذ وصول رجب طيب إردوغان إلى السلطة، أخذت العلاقة التركية الإسرائيلية طابعاً خاصّاً لا سيما أنّ الحزب الآتي من رحم الإسلاميين الأتراك
حاول إردوغان الجمع بين أمور يصعب الجمع بينها، فهو من جهة مهتمّ بنبض الشارع الإسلامي التركي المحافظ الذي يعتبر فلسطين والمسجد الأقصى قضية المسلمين الأولى، ومن جهة أخرى، بالمصالح البراغماتية المادّية لتركيا، وفي طليعتها رغبته في التعاون مع تل أبيب في ملفّ الغاز في شرق المتوسط، واقتناعه الراسخ بأنّ العلاقة الجيّدة مع الدولة العبرية هي الممرّ إلى قلب واشنطن خصوصاً، والغرب عموماً. ويدرك أنّ المواقف الحادّة لها أثمان سياسية واقتصادية باهظة لا تقدر تركيا على دفعها في ظلّ أزمتها المالية الخانقة. ولذلك فضّل التواؤم والتناغم مع المواقف العربية من العدوان على غزة وألّا يذهب إلى حدّ قطع العلاقة الدبلوماسية مع الدولة العبرية، الأمر الذي لم تفعله أيضاً دول التطبيع العربي.
بيد أنّ حجم الضغط الشعبي في تركيا ومطالبته بموقف أشدّ وضوحاً إزاء العدوان، وأهمّية “قضية فلسطين” في خطاب تركيا الإردوغانيّة القائم على تعزيز موقعها في العالم الإسلامي، إضافة إلى بشاعة العدوان الإسرائيلي على مدى سبعة أشهر التي لا تحتمل، وإطالة أمد الحرب واحتمال تحوّلها إلى صراع مفتوح، جعلته يعيد النظر في أولويّاته، ومواقفه اللفظية التي وصف فيها إسرائيل بأنّها دولة إرهاب، ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بأنّه “جعل هتلر يغار منه” بأساليب الإبادة.
لم يتوقّف الأمر على الخطب والتصريحات النارية، بل أرفقها بقرار حظر كلّ الأنشطة التجارية من استيراد وتصدير مع إسرائيل، حتى “التوصّل إلى وقف دائم للنار وتوفير المساعدات الإنسانية في غزة”. كما أعلنت تركيا أنّها ستنضمّ إلى مسعى جنوب إفريقيا إلى مقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية “بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية”. وهنا يتبادر السؤال: هل تتّخذ أنقرة خطوات أكثر تصعيداً ضدّ إسرائيل؟ وهل تقطع العلاقات معها؟
واقعياً جاءت الخطوات التصعيدية، التي اتّخذتها أنقرة بعد مرور سبعة أشهر على الحرب ولا تزال تبدو ضعيفة
قرارات متأخّرة
واقعياً جاءت الخطوات التصعيدية، التي اتّخذتها أنقرة، بعد مرور سبعة أشهر على الحرب، ولا تزال تبدو ضعيفة، بالمقارنة بمواقفها من القضية الفلسطينية خلال العقد الماضي، خصوصاً لجهة تجنّب اتّخاذ خطوات على غرار تخفيض العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، كما جرى في عامَي 2010 و2018، لتُظهر نهجاً مختلفاً لإردوغان مصمّماً هذه المرّة على جعل التكاليف منخفضة، إن على تركيا أو على علاقاتها بإسرائيل، والحفاظ على هامش يُتيح للدبلوماسية التركية التحرّك من أجل وقف العدوان على غزة، ومعالجة الكارثة الإنسانية في القطاع.
قبل قرار حظر التبادل التجاري، صاغت الحكومة التركية تصريحاتها بدقّة ضدّ نتنياهو شخصياً، لتحميله مسؤولية ما يجري في فلسطين، بدلاً من إسرائيل ككلّ، الأمر الذي بدا وكأنّه تركٌ للباب مفتوحاً لإعادة ترطيب العلاقات مع أيّ حكومة إسرائيلية محتملة قد تخلف الحكومة الحالية، وحرصٌ على وضع تركيا كجهة فاعلة في أيّ سيناريوات لما بعد الحرب على غزة. لكن من الواضح أنّ نتنياهو باقٍ في الحكم، أقلّه في المدى المنظور، وتالياً على أنقرة التعامل مع هذا الواقع وعدم ترك الأمور تذهب على غاربها.
بعد أسابيع من اندلاع الحرب أطلق إردوغان تصريحات برّأت “حماس” من تهمة الإرهاب ووصمت إسرائيل بالعدوان والإجرام
ولأنّ تركيا ترغب في تأدية دور في غزة ما بعد الحرب، وتتوق إلى المشاركة في إعادة إعمار القطاع، وتنظيم السياسة الفلسطينية، والتوسّط في حلّ طويل الأمد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهذا سيرغمها على تفادي قطيعة كاملة أخرى. حتى المقاطعة التجارية قد تكون سهلة الاختراق، إذ تفيد تقارير صحافية أنّ تركيا تستمرّ في تزويد إسرائيل النفط الأذريّ، الذي يُنقل عبر خطّ أنابيب من بحر قزوين إلى ميناء جيحان على البحر الأبيض، ومنه إلى إسرائيل. كما أنّ أنقرة تأخذ في الحسبان عوامل أخرى مثل الآثار المستقبلية للأزمة مع إسرائيل على موقفها في المنافسة الجيوسياسية في شرق البحر المتوسط، وعلى مستقبل علاقاتها الجديدة مع الولايات المتحدة أيضاً.
إقرأ أيضاً: غزّة تشطر تركيا إلى شطرين
حتى لو لوّح إردوغان بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو تخفيضها، فإنّ ذلك إذا حصل فسيكون مصمّماً بدرجة أساسية لممارسة المزيد من الضغط على إسرائيل للتعجيل بوقف الحرب، على أن يكون لتركيا دور فعّال في مجال الوساطة، وفي مجال الجهود الإغاثية الإنسانية في غزة.
وحده استخدام إسرائيل حقّ النقض ضدّ دور تركي في غزة، يمكن أن يبلور القطيعة الكاملة ويدفع في اتّجاهها، وإذا حدثت مفاجأة ليست في الحسبان.