زعيم الصّين في باريس: فرنسا تقود خروجاً عن السّرب الأميركيّ

مدة القراءة 7 د

لا شيء يوحي للزعيم الصيني شي جين بينغ بإمكانية تغيّر الموقف الذي تتّخذه الولايات المتحدة حيال بلاده. أجرت واشنطن تحوّلاً استراتيجياً كبيراً في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما جعل من الصين أولوية في هواجس الأمن والاقتصاد والمكانة الدولية. بدت واشنطن مستعدّة أن تتخلّى عن الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم من أجل التفرّغ لمواجهة الخطر الأكبر. حينها بدا أنّه يمكن التفاهم مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، حتى بعد استيلاء جيشه على القرم، ويمكن “تبريد” المنطقة عندنا بإبرام اتفاق فيينا لعام 2015 بشأن البرنامج النووي الإيراني.

 

 

تبنّى دونالد ترامب لاحقاً “عقيدة” أوباما ضدّ الصين. بدا حينها أنّ أوروبا تغرّد خارج السرب الأميركي فتمضي في إبرام العقود مع بكين. اضطرّ ترامب في حزيران 2019 إلى أن يضغط، أثناء زيارته للندن، على “صديقه” المحافظ بوريس جونسون للتراجع عن عقد أبرمته بريطانيا مع شركة هواوي الصينية لبناء شبكة الجيل الخامس للاتصالات. كابر رئيس الوزراء البريطاني قبل أن يخضع عام 2020 لواشنطن ويلغي الصفقة الصينية.

لم تفهم أوروبا كثيراً هذا “الهوس” الأميركي حيال الصين، ولم يقنع سوء العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وترامب أوروبا بتغيير موقفها و”فتح أعينها” لرصد التمدّد الصيني صوب القارّة العجوز. كان على جو بايدن أن يُبعد سلفه عن البيت الأبيض عام 2020 ويشرع بمصالحة الناتو وأوروبا ومجموعة السبع G7. وكان على الزعيم الروسي فلاديمير بوتين أن يهاجم أوكرانيا في شباط 2022 لكي تستفيق أوروبا على أخطار داهمة على أبوابها.

أوروبا و”الريبة” اتجاه الصين

بدت الصين خصماً. أصدر الزعيم الصيني ونظيره الروسي في 4 شباط 2022، أي قبل 20 يوماً من الهجوم الروسي على أوكرانيا، وثيقة استراتيجية تعلن “شراكة بلا حدود” بين بلدَيهما. كان من الصعب تصديق أنّ شي جين بينغ لم يكن يعرف شيئاً عن حرب حليفه ضدّ أوروبا (هكذا تماماً وصف الأوروبيون هجوم روسيا على أوكرانيا).

 في المعلن أنّ للصين في أوروبا صديقين موثوقين: المجر وصربيا. وفي الهمس أنّ للصين صديقاً ثالثاً هو فرنسا

لم تبتلع أوروبا رواية الحياد الصيني في هذا الصراع وراقبت بريبة دعم الصين اقتصاد الحرب في روسيا وتصديرها تكنولوجيات يسهل تسخيرها داخل المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا. لاحقاً استنتجت أوروبا قساوة الحرب التجارية الصينية التي لطالما شكا منها الأميركيون وبُحّت أصواتهم في تحذير الأوروبيين أيضاً من خبث صيني على شكل “مبادرة الحزام والطريق”. في البال أنّ إيطاليا هي أوّل دولة في مجموعة السبع توقّع عام 2019 تفاهماً للانضمام إلى مشروع “طريق الحرير الجديدة” الصيني.

تغيّر الزمن. اقتربت أوروبا من دوافع الولايات المتحدة لمواجهة الصين. انسحبت إيطاليا في عهد جورجيا ميلوني من “الطريق” الصيني. ومع ذلك لا تجتمع دول الاتحاد الأوروبي على موقف واحد يتقاطع مع موقف واشنطن. لا بل إنّ لدول الاتحاد مصالح متفرّقة مع بكين. زارها المستشار الألماني منتصف نيسان الماضي على رأس وفد من قادة الشركات دفاعاً عن مصالح ألمانيا وحدها.

ماكرون و”قنبلته” الصينية

قبل ذلك بعام زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعاد من هناك بفضيحة. قال حينها إنّ “على أوروبا أن تنتهج سياسة مستقلّة عن الولايات المتحدة والصين وأن تكفّ عن التبعية للولايات المتحدة”. غضبت واشنطن. استهجنت ألمانيا ودول عدّة في الاتحاد الأوروبي هذا الموقف. انتقدت المعارضة في فرنسا هذه الخفّة بعد ساعات على مغادرته بكين.

حاول ماكرون الاستقواء بالمستشار الألماني أولاف شولتس وفشل. كان استقوى بالمستشارة أنجيلا ميركل حين زار شي فرنسا عام 2019. غير أنّ أوروبا كانت حاضرة بقوّة

حين زار الزعيم الصيني فرنسا في الأيام الأخيرة (6 و7 أيار الجاري)، بدا أنّه يتحرّك داخل بيئة ودودة حتى لا نقول حاضنة. سبّبت الجائحة عزلة الصين وزعيمها. تحرّك لاحقاً صوب روسيا وجنوب إفريقيا وفيتنام والولايات المتحدة. لكنّها المرّة الأولى التي يقوم بها بزيارة لفرنسا وأوروبا منذ عام 2019. لا تنسى بكين لفتة الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول بالاعتراف بالصين عام 1964. كانت الصين قد أصبحت شيوعية عام 1949. قاطعت العالم الغربي بما في ذلك فرنسا واختلفت مع الاتحاد السوفيتي عام 1960. مدّ ديغول يداً أخرجت الصين من عزلتها. جاء شي جين بينغ يحتفل بـ 60 عاماً من العلاقات مع فرنسا. في العقود التي سبقت هذا الاعتراف ومنذ بداية القرن العشرين عاشت في فرنسا شخصيات صينية كان لها شأن لاحقاً في قيادة الصين الشيوعية. يروي الزعيم الصيني شو إن لاي الكثير عن أيّامه في فرنسا منذ وصلها عام 1920.

حاول ماكرون الاستقواء بالمستشار الألماني أولاف شولتس وفشل. كان استقوى بالمستشارة أنجيلا ميركل حين زار شي فرنسا عام 2019. غير أنّ أوروبا كانت حاضرة بقوّة. من جهة يردّد ماكرون أنّه يدافع في محادثاته مع الزعيم الصيني عن بلدان الاتّحاد جميعاً. ومن جهة أخرى حضرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير لاين على طاولة مباحثات هدفت إلى معالجة الحرب التجارية المستعرة بين أوروبا والصين، واستدراج الزعيم الصيني للعب دور حقيقي وضاغط على حليفه بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا أو على الأقلّ القبول بـ”هدنة أولمبية” تمرّر ألعاب باريس بهدوء.

صحيح أنّ الصين فقدت إيطاليا على “طريق الحرير”، لكنّ الزعيم الصيني، بعدما غادر فرنسا، توجّه إلى صربيا والمجر حيث للصين حلفاء وأصدقاء

الضخّ الصيني لن يتوقف

بغضّ النظر عن ضوضاء المناسبة وطقوسها الاحتفالية، فإنّه يصعب تخيّل نجاح ماكرون في “عقلنة” نظيره الصيني في الكفّ عن إغراق أوروبا بالبطّاريات والسيارات الكهربائية والتوقّف عن ضخّ الدعم الحكومي غير العادل في مصانع الصين. لا شيء يدفع الرئيس الصيني للمرونة. فبلادُه تستفرد بكلّ دولة أوروبية على حدة ولا تجد في وجهها كتلة أوروبية متراصّة معاندة. ولا شيء سيمنع الرجل من إزالة حواجز بكين أمام شركات أوروبا للوصول إلى السوق الصيني بالمستويات التي يطالب بها الأوروبيون.

يتمتّع شي جين بينغ برشاقة في اللعب على أوتار الخلاف بين أوروبا والاتحاد الأوروبي، خصوصاً إذا ما أطلّ ترامب من جديد من نوافذ البيت الأبيض. لكنّ طموحات الزعيم الصيني الأوروبية تصطدم مع ذلك بحلف استراتيجي غربي يجمع دفّتي الأطلسي لمواجهة ذلك التحالف الصاعد بين بكين وموسكو.

صحيح أنّ الصين فقدت إيطاليا على “طريق الحرير”، لكنّ الزعيم الصيني، بعدما غادر فرنسا، توجّه إلى صربيا والمجر حيث للصين حلفاء وأصدقاء. تموّل بكين خطّاً للسكك الحديد بين بلغراد وبودابست لنقل البضائع الصينية التي تصل إلى مرفأ بيريه في اليونان. وتنتشر مصانع البطاريات والسيارات الكهربائية الصينية في المجر. لكنّ لرجل الصين القوي قواسم مشتركة في الفكر والسياسة مع البلدين. فهما صديقان أيضاً لروسيا وتنظران بعين غير ودودة إلى الغرب. وفي الذاكرة مناسبة أليمة مرّ عليها 25 عاماً حين قامت قاذفات الناتو بقصف السفارة الصينية في بلغراد عام 1999.

إقرأ أيضاً: القطار الصّينيّ السريع يخترق أوروبا من شرقها

سيعود شي جين بينغ إلى بلاده الأحد. في المعلن أنّ للصين في أوروبا صديقين موثوقين: المجر وصربيا. وفي الهمس أنّ للصين صديقاً ثالثاً هو فرنسا التي قد تنجح في إقناع أوروبا أو بعضها في التحليق مع الصين بعيداً عن أجواء أميركا.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…