القطار الصّينيّ السريع يخترق أوروبا من شرقها

مدة القراءة 5 د

حطّت طائرة الرئيس الصيني شي جينبينغ في صربيا بتوقيت لا يخلو من الرمزية. ففي مثل هذا التاريخ قبل 25 سنة قصفت الطائرات الأميركية السفارة الصينية في بلغراد “بالخطأ”. من الصعب التمييز متى ينتهز السياسيون المصادفات ومتى يصنعونها.

كلّ ما عدا ذلك في جولة الرئيس الصيني شي جينبينغ الأوروبية ليس من صنع الصدف، بل من صنع صيني. لا سيما القطار السريع الذي سينقل الرئيس الصيني من بلغراد إلى العاصمة المجرية بودابست. هذا القطار بنته شركات صينية في إطار مبادرة “الحزام والطريق” (طريق الحرير)، ليقلّل وقت الرحلة بين العاصمتين من ثماني ساعات إلى ساعتين وأربعين دقيقة.

ليس مصادفة أن يضع الرئيس الصيني صربيا والمجر على خريطة جولته، بالنظر إلى كونهما الدولتين اللتين تتشاركان الحماسة لمبادرة “الحزام والطريق”، بقدر ما تتشاركان التموضع السياسي في الحدّ الأوروبي الأبعد عن الولايات المتحدة والأقرب إلى روسيا والصين.

بات من الواضح الآن أنّهما تشكّلان ركيزتين أساسيّتين للنفوذ الاستثماري والتجاري والصيني في أوروبا، في ظلّ الضغوط الغربية القوية على إيطاليا واليونان للتراجع خطوات إلى الوراء في علاقاتهما بالصين، بعدما كانت الأخيرة تراهن عليهما لتكونا البوّابة الجنوبية المشرّعة إلى الأسواق الأوروبية من البحر المتوسّط.

انسحاب إيطاليّ… تردّد يونانيّ

قبل أشهر قليلة، قرّرت حكومة جورجيا ميلوني اليمينية في إيطاليا الانسحاب رسمياً من مبادرة الحزام والطريق بعد أربع سنوات من الانضمام إليها. وأظهرت أثينا تراجعاً ملحوظاً في الحماسة للعلاقة مع بكين، بعدما كان رئيس وزرائها كيرياكوس ميتسوتاكيس ينظّر للتوازن بين الانتماء الأوروبي وبناء شبكة المصالح مع الصين. وتجسّد ذلك باستثمارات صينية ضخمة أهمّها بناء ميناء بيرايوس. ولا شكّ أنّ الاندفاع الاستراتيجي الأميركي في العام الماضي زاد من الحيرة الاستراتيجية في إيطاليا واليونان، خصوصاً بعدما طرحت مبادرة الممرّ الاقتصادي الهندي – الأوروبي عبر الشرق الأوسط.

تراهن الصين على نزعة ماكرون إلى الحديث عن “الاستقلالية الاستراتيجية” الأوروبية، لتطويرها إلى اتجاه أوضح نحو نظام دولي متعدّد الأقطاب

في هذا السياق، أتت زيارة شي لتركّز المفاتيح الأساسية للامتداد في الشرق الأوروبي:

– صربيا بالذات معروفة بانحيازها إلى روسيا منذ أن تعرّضت للهجوم من الناتو في التسعينيات لوقف التصفية العرقية في البوسنة والهرسك. ورئيسها ألكسندر فوتشيتش لديه نبرة صريحة في تأييد سيّد الكرملين فلاديمير بوتين، وفي دعم الموقف الصيني في قضية تايوان.

– والأهمّ أنّ صربيا ليست عضواً في الاتّحاد الأوروبي (ما زالت في طور التفاوض للانضمام إليه) ولا في حلف الناتو. لكنّها باتت مرتبطة أكثر من أيّ وقت مضى بالاقتصاد الأوروبي، بفضل القطار الذي وصَلَها بالمجر.

– أمّا بودابست فيحكمها اليمين المعبّأ بالمفارقات والتناقضات. فالمجر عضو في الاتحاد الأوروبي والناتو، لكنّها الصوت المختلف في المنظومة الأوروبية، والمعارض الدائم لتشديد العقوبات على موسكو.

خاصرة أوروبا البلقانيّة

مشاريع الصين كثيرة في شرق أوروبا وخاصرتها البلقانية:

– ففي كرواتيا، بنَت الصين جسراً يصل بين جزءيها اللذين يفصل بينهما المنفذ البحري الصغير التابع للبوسنة والهرسك.

– وفي الجبل الأسود بنَت طريقاً سريعاً يصل بين الشمال الفقير والجنوب العامر بالسياحة. وفي المجر، ضخّت استثماراً بـ 7.3 مليارات يورو لإنشاء مصنع للبطّاريات ليدخل في سلاسل التوريد لصناعات الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر. وكلّ ذلك جزء من التصميم الصيني على فتح الأسواق الأوروبية أمام الصناعات الصينية، التقليدية منها والحديثة.

هذا الدخول من الخاصرة البلقانية يتسبّب بقلق كبير في ألمانيا المتوجّسة من دخول الصين منافساً شرساً في ملعبها الصناعي التقليدي. لا سيما في مجال صناعة السيارات التقليدية والكهربائية وصناعات الطاقة الشمسية وتوربينات طاقة الرياح.

لقد كانت برلين الدافع الرئيسي خلف بدء الاتحاد الأوروبي بمسار للتحقيق في ما إذا كانت بكين تمارس الإغراق في دعمها للصناعات الجديدة السريعة التوسّع. وكانت قبل ذلك القائدة لمقولة “تخفيف المخاطر” الصينية، بما تنطوي عليه من تحرير سلاسل الإمداد من الاعتماد المفرط على الاستيراد من الصين.

في كرواتيا، بنَت الصين جسراً يصل بين جزءيها اللذين يفصل بينهما المنفذ البحري الصغير التابع للبوسنة والهرسك

البوّابة الفرنسيّة أيضاً

لذلك ربّما اختار الرئيس الصيني أن يدخل القارّة العجوز من غربها، ومن البوّابة الفرنسية تحديداً. واختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يأتي إلى جانبه برئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لتشاركه في المحادثات، ليعطي الطابع الأوروبي الجامع للتفاوض مع بكين.

تراهن الصين على نزعة ماكرون إلى الحديث عن “الاستقلالية الاستراتيجية” الأوروبية، لتطويرها إلى اتجاه أوضح نحو نظام دولي متعدّد الأقطاب، يحدّ من الهيمنة الأميركية على أمن أوروبا واقتصادها، ويفتح أبواباً أوسع للتعاون مع بكين.

قبل 25 عاماً، أتت الضربة الأميركية للسفارة الصينية في بلغراد في إطار الهجوم الذي شنّه الناتو لتأديب حليف تقليدي لروسيا. واعتذرت واشنطن عمّا وصفته بالخطأ، ودفعت التعويضات. يأتي الرئيس الصيني إلى الموقع نفسه بعد ربع قرن ليقول إنّ الخطأ مع بلاده لا يغتفر.

إقرأ أيضاً: 8 سنوات على رؤية محمّد بن سلمان: الأماني ممكنة

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…