الصهيونية والصهيونية المسيحيّة ومعاداة الساميّة (1/4)

مدة القراءة 8 د

في حين أنّ الصهيونية” مصطلح يشير إلى حركة سياسية علمانية تهدف إلى إعادة توطين اليهود في فلسطين، يستخدم تعبير “الصهيونية المسيحية” للإشارة إلى مجموعة من الإنجيليين الذين يدعمون بشدّة عودة اليهود والاستيطان في فلسطين. على الرغم من الاختلاف بين أعضائها في ما يتعلّق بأسباب دعمها للصهيونية، إلا أنّ الصهيونية المسيحية، في جوهرها اللاهوتي، تحمل أيديولوجية معادية للساميّة، تهدف، على الأقلّ، إلى تنصير اليهود، وفي شكلها المتطرّف، إلى استخدام هذه العودة كمقدّمة للمجيء الثاني للمسيح ونهاية الأزمنة، عندما يفنى معظم اليهود، وتبقى أقلّية منهم بعد تحوّلها إلى المسيحية. هناك مجموعة ثالثة أسمّيها “الصهيونية غير اليهودية”، التي تشمل توجّهاً سياسياً علمانياً واستعمارياً متجدّداً يضمّ مؤيّدين للصهيونية، يعتبر إسرائيل موقعاً عسكرياً متقدّماً على خطّ المواجهة يدافع عن المصالح الأميركية و”القيم” الغربية.

الدكتور مصطفى علّوش يقدّم دراسة عبارة عن قراءة نقدية في الصهيونية والصهيونية المسيحيّة ومعاداة الساميّة، على أربع حلقات، ينشرها موقع “أساس”. في الحلقة الأولى إضاءات على أصول الصهيونية في التاريخ الأوروبي.

 

من المهمّ أن نذكر بإيجاز الفرق بين “اليهودية” و”الصهيونية” في سبيل تجنّب الالتباس السائد في ما يتعلّق بالمصطلحين. هما مفهومان مختلفان، على الرغم من أنّهما غالباً ما يكونان مترابطين في المناقشات حول دولة إسرائيل. فاليهودية ديانة توحيدية، تشمل مجموعة من المعتقدات والممارسات والتقاليد الدينية التي تتمحور حول التوراة والكتب المقدّسة اليهودية الأخرى. وعلى الرغم من أنّ اليهود هم مجموعة متنوّعة من الناس تجمعهم هويّة دينية مشتركة، لكنّهم منتشرون في جميع أنحاء العالم، يستند ارتباطهم إلى المعتقدات الدينية ووجهات نظر مشتركة معيّنة حول تاريخهم.

الصهيونية اليهودية هي حركة سياسية وقومية ظهرت في أواخر القرن الـ19، كان هدفها الأساسي هو إقامة وطن لليهود في فلسطين

أمّا الصهيونية اليهودية فهي حركة سياسية وقومية ظهرت في أواخر القرن الـ19، كان هدفها الأساسي هو إقامة وطن لليهود في فلسطين. يشير مصطلح “صهيون” عندهم إلى تلّة في القدس، وتدعو الصهيونية إلى إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل التاريخية المفترضة. اكتسبت الحركة زخماً كبيراً ردّاً على ممارسات معاداة الساميّة والرغبة في إيجاد ملاذ آمن لليهود. من المهمّ الملاحظة أن ليس كلّ اليهود منتسبين إلى الحركة الصهيونية ولا حتى يدعمونها. هناك يهود يتبعون الجوانب الدينية لليهودية، لكنّهم ليسوا بالضرورة صهاينة، والعكس صحيح، فأكثرية الصهاينة هم من غير الملتزمين دينياً.

“الشغف الجرماني بالحرب”… و”حسن”

من بين آلاف الكتب التي أُحرقت في “أوبرنبلاتز” في برلين في عام 1933، في أعقاب الغزوة النازية لـ”معهد الجنس“، كانت أعمال الشاعر الألماني اليهودي هاينريش هاينه. ولإحياء الذاكرة الألمانية لهذا الحدث المقيت في تاريخ شعب يعتبر نفسه راعي الثقافة، نقش على الأرض في الموقع حيث أحرقت الكتب أحد أشهر أبيات مسرحية هاينه “مأساة المنصور”. يقول البيت، على لسان “حسن” المسلم، إنّه عند سماعه أنّ الغزاة المسيحيين للأندلس أحرقوا القرآن في سوق غرناطة، رأى أنّ ذلك لم يكن ذلك سوى تمهيد لما سيأتي، فعندما يحرقون الكتب سيحرقون الناس في نهاية المطاف أيضاً. في عام 1835، قبل 98 عاماً من استيلاء أدولف هتلر والحزب النازي على السلطة في ألمانيا، كتب هاين في مقالته “تاريخ الدين والفلسفة في ألمانيا”: “المسيحية، وهذه هي أعظم مزاياها، ربّما خفّفت إلى حدّ ما من الشغف الجرماني الوحشيّ بالحرب، لكنّها لم تستطع تدمير هذا الشغف بالكامل. فإذا تحطّمت هذه التعويذة المقهورة، أي الصليب، فإنّ الجنون المسعور تجاه المحاربين القدامى، ذلك الغضب الهائج المجنون الذي تحدّث عنه شعراء الشمال وتغنّوا به كثيراً، سوف يشتعل مرّة أخرى. هذه التعويذة هشّة في طبعها، وسيأتي اليوم الذي ستنهار فيه بشكل بائس. ثمّ سترتفع الآلهة الحجرية القديمة من الحطام المنسيّ، وتنفخ غبار ألف عام من أمام أعينهم، وأخيراً، سيحضر ” ثور” (الإله الأسطوري الشمالي) بمطرقته العملاقة، ويحطّم الكاتدرائيات القوطية…

من المفارقات أنّ العديد من النخب العربية المسلمة كانوا متعاطفين مع الفكرة الأساسية وراء الصهيونية

 لا تبتسموا سخرية من نصيحتي، نصيحة ذاك الحالم الذي يحذّركم من وهن دعوة أتباع كانط وفيخته وفلاسفة الطبيعة. لا تسخروا من صاحب الرؤيا الذي يتوقّع الثورة ذاتها في العالم المنظور كما حدث في الروحانيات. الفكر يسبق العمل كما يسبق الرعد المطر. الرعد الألماني ذو طابع جرماني حقيقي، وقد يكون رعداً غير ذكي، لكن موجود كقرقرة عميقة في الوجدان الجرماني. ومع ذلك، سيأتي زمنه عندما تسمعون جلبة عظيمة لم يسمعها أحد من قبل في تاريخ العالم، فتعلمون أنّ الصاعقة الألمانية قد ضربت أخيراً. في خضمّ ذاك الضجيج، ستسقط نسور من الفضاء ميتة، وستختبئ الأسود في أبعد صحاري إفريقيا في عرائنها الملكية. وسيتمّ عرض صاخب في ألمانيا سيجعل الثورة الفرنسية بعنفها تبدو وكأنّها مجرّد لفحة شاعرية بريئة”.

عندما قرأت عنوان ملحمة هاينه “المنصور” أدركت مدى ازدراء هذا الرجل بالعنصرية المستوطنة في المجتمع المسيحي الأوروبي، ليس فقط في أوروبا الشرقية، حيث ارتكبت مذابح متكرّرة ضدّ اليهود، لكن في أوروبا الغربية أيضاً، حتى بعد عصر التنوير والثورة الفرنسية. ثار هاينه ضدّ ما سمّاه “وباء المعمودية”، عندما تمّت “دعوة” يهود أوروبا الغربية إلى أن يتنصّروا طقوسياً من أجل السماح لهم بالوصول إلى المناصب الأكاديمية أو الحكومية الرسمية. في ملحمة “المنصور”، عبّر هاينه عن حنين عميق إلى الشرق الإسلامي وتقاليده.

هذه مقدّمة لما سيلي من حديث عن نشوء فكرة الصهيوينة اليهودية.

أسباب أوّل مؤتمر “صهيوني” في 1897

“في فلسطين لا نقترح حتى الذهاب إلى شكل من أشكال التشاور مع رغبات سكان البلاد الحاليين. القوى العظمى الأربع ملتزمة بالصهيونية. والصهيونية، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، جيّدة أو سيّئة، فهي متجذّرة في تقاليد قديمة، في الاحتياجات الحالية، وفي الآمال المستقبلية. فهي ذات أهمية أعمق بكثير من رغبات 700,000 عربي يسكنون الآن تلك الأرض العريقة”. رسالة أرسلها بلفور إلى مسؤول بريطاني في فلسطين عام 1922.

“في فلسطين لا نقترح حتى الذهاب إلى شكل من أشكال التشاور مع رغبات سكان البلاد الحاليين. القوى العظمى الأربع ملتزمة بالصهيونية

كان قلق هاينه المنغّص بين يهود النخبة في أوروبا الغربية، بالإضافة إلى تعاطفهم مع الجاليات اليهودية الروسية بسبب الفظائع المتكرّرة التي ارتُكبت ضدّهم من قبل المسيحيين المتحمّسين غير المتسامحين، هما اللذان دفعا وأدّيا إلى مؤتمر “بازل الصهيوني الأوّل” عام 1897، الذي دعا إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين.

من المعروف أنّ العديد ممّن ادّعوا أنّهم المسيح المنتظر قد ظهروا في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا الشرقية، داعين اليهود إلى ترك ممتلكاتهم للهجرة إلى أرض الميعاد، لكن دون نجاح يذكر. كان بعض الشغوفين بتأويل اللاهوت المسيحي هم الذين روّجوا لعودة الشعب اليهودي إلى جبل صهيون في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بهدف تسريع العودة الثانية للمسيح، ثمّ تحويل جزء من اليهود إلى المسيحية. هذا فقط للقول إنّه على الرغم من الأسباب المختلفة التي طرحها المسيحيون الغربيون لتشجيع أو إجبار الشعب اليهودي على هجرة أوروبا، أو الذهاب إلى الأرض المقدّسة، فإنّ فكرة نوع من “الحلّ النهائي” كانت دائماً في خلفيّة تلك الدعوة.

من المفارقات أنّ العديد من النخب العربية المسلمة كانوا متعاطفين مع الفكرة الأساسية وراء الصهيونية. يوسف الخالدي، عمدة القدس العثماني الفلسطيني في عام 1898، اعتبر الصهيونية، كما نوقشت في مؤتمر بازل اليهودي قبل عام، فكرة منطقية ومرحّباً بها، بالنسبة لما حدث لليهود في أوروبا على مرّ القرون. ومع ذلك، فقد حذّر من أنّ فلسطين لا ينبغي أن تكون مكاناً لدولة يهودية، لأنّ ذلك يعني معاناة كبيرة للّذين يعيشون هناك. “آحاد هعام”، الصحافي اليهودي الذي زار فلسطين في أوائل القرن العشرين، أكّد أنّ احتلال فلسطين ستكون له تكلفة إنسانية باهظة لأنّ الأرض لها سكّانها بالفعل. ثمّ دعا إلى عودة ثقافية إلى صهيون، بدلاً من الاستيطان الفعليّ.

إقرأ أيضاً: أزمنة التّحوُّل الغربي العنيف؟

 

في الحلقة الثانية غداً:

وعد بلفور: أوروبا تطرد يهودها… وأميركا توافق

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…