أزمنة التّحوُّل الغربي العنيف؟

مدة القراءة 8 د

تواجه قيم التنوير والدولة الحديثة تحدّيات تتمثّل في بروز فئات من المثقّفين والشباب تخاصم الغرب الليبرالي والدولة من الداخل. وفي الوقت نفسه هناك انقسام حادٌّ في قلب الدولة ونظامها على طبيعة الحكم والعلاقة بالجمهور. فهناك توجُّه يمينيّ حادّ بدأ يصل للسلطة من خلال الانتخابات. وإسرائيل باعتبارها وليدة الدولة الغربية الحديثة تدخل في التغيير الانقساميّ هي أيضاً. وتفقد أنصارها القدامى في الغرب ودعاوى التفوّق الأخلاقي وتتّجه لاستخدام القوّة العارية.

 

 

الذين قرأوا مقالتي الأخيرة في صحيفة الشرق الأوسط عن تهديد قيم التنوير في 6 أيار 2024، اعتبر بعضهم أنّ في المقالة مبالغات، بينما اعتبر البعض الآخر أنّها شديدة التشاؤم لذهابي إلى أنّ التحوّل الحاصل هو تحوّلٌ عنيف، ربّما يشبه ولو من بعيد ظروف الحربين العالميّتين وإن جرى على تقطّع وفي ملفّات متعدّدة وليس في العلاقات الدولية والصراعات الداخلية فقط، مثل التغيّر المناخي، وتفاقم الهجرات والمجاعات، والتوجّه نحو اليمين في سائر الدول، وتجاوز القوانين والتنظيمات الليبرالية.

أريد في هذه العجالة في “أساس” مراجعة ما قلته من قبل في الصحف وفي “أساس” أيضاً وفي بعض مراجعات الكتب الجديدة بمجلّة قراءات في جامعة محمد بن زايد التي أُدرّس بها.

أزمة وطن اليهود.. منذ نابليون

لقد خدعت ظاهرة التأييد المطلق لإسرائيل من جانب سائر حكومات الدول الغربية، فخلطوا بينها وبين الخصوصية اليهودية من جهة، واليمين القيميّ والمحلّي الصاعد في الدول الغربية (والشرقية!). والمسألة اليهودية لها خصوصيّةٌ بالفعل منذ أواسط القرن التاسع عشر عندما ازدهرت الظاهرة القومية عقب الثورة الفرنسية، وحتى كارل ماركس اضطرّ إلى الكتابة في المسألة اليهودية. ومن المعروف أنّ وعد بلفور وزير المستعمرات البريطاني لحاييم وايزمان بوطنٍ قوميّ لليهود (1917)، كان بالطبع قبل الهولوكوست (1936-1944).

هناك توجُّه يمينيّ حادّ بدأ يصل للسلطة من خلال الانتخابات. وإسرائيل باعتبارها وليدة الدولة الغربية الحديثة تدخل في التغيير الانقساميّ هي أيضاً

بل يقال إنّ نابليون بونابرت حوالى عام 1800 فكّر أثناء حصار عكا بوطنٍ لليهود هناك! ومن الطبيعي أن يزداد الوضع اليهودي حراجةً وإحراجاً للغرب بعد المذابح الهتلريّة. إنّما الذي أردتُ قوله أنّ أشدّ أنصار إنشاء الكيان حماسةً كانوا اليساريين والليبراليين بين المثقّفين مع الحكومات وقبلها. وقد اضطرّت الأحزاب الشيوعية العربية إلى السير في هذا الحلّ الموارب (تقسيم فلسطين) إطاعةً للاتّحاد السوفيتي الذي اعترف بإسرائيل قبل الولايات المتحدة. ولذا كان القوميون العرب غاضبين عليهم. وحتى السبعينيات من القرن العشرين، كان آلاف اليساريين الأوروبيين وكثير منهم من غير اليهود يدشّنون شبابهم في الكيبوتزات. ولا ننسى أنّ حزب العمّال الذي أسّس إسرائيل وحكمها أكثر من ثلاثين عاماً نشأ نتيجة توحّد مع حزب الماباي اليساري أيضاً.

إنّ اليسار اليوم، فضلاً عن تفكّكه وضعفه، صار في غالبيّته ضدّ إسرائيل، بينما صار الإنجيليون الجدد في الواجهة مع إسرائيل، إضافةً إلى حكومات أو تيّارات اليمين المتطرّف الديني وغير الديني. وقد يقال إنّ هذا التغيير في الأنصار غير مهمّ ما دامت النتيجة واحدة. وهذا غير صحيح، فقد كانت المقولة أخلاقية وإنقاذية أو هكذا صوّروها، وما عادت كذلك، فقد فقدت إسرائيل التفوّق الأخلاقي، وهي تفقد الطابع القومي لتكشف عن وجهها باعتبارها دولةً دينيةً لا يتحزّب لها غير الإنجيليين الجدد أو تيار المسيحية الصهيونية. أمّا هي فتعتمد القوّة العارية ويقودها الجيش والمستوطنون.

هناك حديثٌ كثيرٌ عن عالم ما بعد أميركا، وحديثٌ كثيرٌ عن انتصار اليمين في فرنسا بعد انتصاره في إيطاليا والتحوّل في إسبانيا

التشكيك في قيم التنوير

ولنتقدّم باتجاه الظاهرة الأخرى المتّصلة بالمتغيّرات والحروب الدائرة والبيئات الفكرية التي تتوازى معها وتثير الشكوك الكثيرة فيها. فهذه ليست المرّة الأولى التي يجري فيها التشكيك في قيم التنوير وأصول الدولة الحديثة. فقد كانت تلك القيم التي تأسّست عليها الدول الحديثة تتمثّل في الحرّية والعدالة وإحقاق الحرّيات الأساسية والاحتكام في إنشاء الحكومات إلى الانتخابات واعتبار الرأي العامّ هو صاحب السيادة. إضافةً إلى حكم القانون والأبعاد الاجتماعية والضمانات والسعي إلى السلام والتعاون. مِن الذين تشكّكوا في هذه القيم التي يقال إنّ الدولة الحديثة في الغرب قامت عليها الفيلسوف نيتشه.

وظلّ هذا الاتّجاه حيّاً في مدرسة فرنكفورت النقديّة وصولاً للفلاسفة الفرنسيين الجدد وأشباههم في الولايات المتحدة. وفي العقود الماضية وبعد خطاب إدوارد سعيد في نقد الاستشراق (1977) باعتباره خطاباً استعمارياً. صار ذاك الخطاب قويّاً كما تجلّى في دراسات التابع (subaltern) التي تعتبر أنّ الدولة الحديثة ذات الأيديولوجية الليبرالية والنظام الديمقراطي قد أحدثت غربة في الواقع والوعي مع أنّها تملك دعوى عريضة لجهة حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية وحكم القانون. ويتبدّى ذلك بوضوحٍ في سياساتها الدولية اتّجاه القارّات والشعوب الأخرى وتسبُّبها في خراب الزراعة وتغيّر المناخ والهجرات والمجاعات والنزاعات العنيفة.

إنّ البارز لهذه الناحية الانقسام العميق بالدواخل الغربية بين الذين ما يزالون يقولون بقيم التنوير وليبرالية الدولة من جهة. والأجيال الجديدة من الشبّان والمثقّفين والسياسيين الذين يدعون إلى مغادرة تلك القيم باتجاه الدولة الشمولية ويكسبون على الأرض وفي الانتخابات. فيتنكّرون بالتدريج لرحابات الداخل وللاتّحاد الأوروبي والنظام الدولي الذي كان يتّسم ببعض التوازن.

تواجه قيم التنوير والدولة الحديثة تحدّيات تتمثّل في بروز فئات من المثقّفين والشباب تخاصم الغرب الليبرالي والدولة من الداخل.

الوسط في مواجهة طلاب الجامعات

وكما سبق القول فإنّ هذا التحوّل العميق والواسع لا يتمّ بسهولةٍ بالدواخل أو في المجال الدولي. وإنّما يحفل بالتوتّرات المتصاعدة التي تعدّدت أسبابها وظواهرها، وعلّتها الأساسية التنكّر من جانب المثقّفين اليساريين للنظام القائم ودعاواه، والحملات من جانب اليمين الجديد على النظام وعلى مثقّفي اليسار في الوقت نفسه. وهكذا ما بقي للأنظمة المعتبرة ديمقراطية مؤمنون أو أنصار أقوياء. ويريد المحلّلون السياسيون أن يروا هذه التطوّرات الانقسامية في قلب الحزب الديمقراطي الأميركي أيضاً.

ماذا تفعل قوى الوسط الديمقراطي التي ما تزال في السلطة في أوروبا وأميركا؟ إنّها بدورها تتّجه نحو اليمين أيضاً للاحتفاظ بالسلطة، وهذا واضحٌ في فرنسا والدول الإسكندينافية وكندا وأوستراليا. وإذا بقي هذا التوجّه متقدّماً فالمنتظر أن يتصدّع الوسط لمصلحة اليمين، وأن تتغيّر السياسات بالدواخل في المجال الدولي. إنّ هذا الوسط الذي يتراجع بالدواخل وفي الحرب الروسية على أوكرانيا، يجد نفسه في مواجهة طلاب الجامعات الثائرين تحت عنوان الحرب على غزة. وأمّا في العمق فهو انقسامٌ بداخل الأجيال الجديدة باتّجاهات متضاربة كلّها عنيف.

 في الشرق الأوسط فإنّ الغرب المتغيّر سيترك المزيد من الفراغ والآثار السلبية على هذه المنطقة التي تصدّع فيها الاستقرار

ما الذي يحصل؟ هناك حديثٌ كثيرٌ عن عالم ما بعد أميركا، وحديثٌ كثيرٌ عن انتصار اليمين في فرنسا بعد انتصاره في إيطاليا والتحوّل في إسبانيا. لقد عادت الدولة الشمولية في روسيا، وهي لم تغادرها في آسيا الوسطى والقوقاز، وتتّجه إليها بقوّةٍ في الهند. وتبدو الصين الآن الأكثر ارتياحاً، إذ لا يمين ولا يسار فيها، وأمّا في العمق فإنّ الصين تواجه الآن أيضاً مشكلات ارتباطها العميق بالغرب المتغيّر طوال العقود الماضية.

تعتمد إسرائيل الآن على القوّة العارية بعد سقوط التفوّق الأخلاقي وأوهام الخصوصية. والمنتظر القريب، وقد اتّجهت إلى اليمين الراديكالي الديني وغير الديني، أن تلتمس تحالفات جديدة فتغادر في علاقاتها الأوروبية والأميركية نحو اليمين الصاعد تاركةً الوسط الذي اعتمدت عليه طويلاً. وعلى الرغم من المذابح فإنّ القضية الفلسطينية التي فجّرتها حماس لن تنتهي، إنّما المنتظر المزيد من الآلام والمزيد من الخراب.

إقرأ أيضاً: عبد الناصر.. سيرة المدن القتيلة

أمّا في الشرق الأوسط فإنّ الغرب المتغيّر سيترك المزيد من الفراغ والآثار السلبية على هذه المنطقة التي تصدّع فيها الاستقرار. وتوشك أن تنسدّ فيها أسباب الأمل والنظر إلى المستقبل.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@RidwanAlsayyid

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…