إيران والتهديد العراقيّ.. صراع الممرّات

مدة القراءة 7 د

لم يكن التوقيع الرباعي بين العراق وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر على مذكّرة التفاهم للاستثمار في مشروع طريق التنمية، الذي سبق أن أطلقه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني العام الماضي 2023، مجرّد تفاهم اقتصادي واستثماري على أحد طرق الترانزيت الجديدة، التي يسعى العراق من خلالها إلى ربط مياه الخليج بمياه البحر الأبيض المتوسط عبر أراضيه مروراً بالأراضي التركيّة.

 

 

تضافر الجهود العراقية التركية إلى جانب الجهود الإماراتية القطرية للانطلاق في هذا المشروع الجيوقتصادي ساعد على تخفيض منسوب القلق العراقي التركي حول تأمين كلفة إنشاء هذا المعبر أو الممرّ البالغة نحو 17 مليار دولار. إلّا أنّه أرسى في المقابل معادلة اقتصادية استراتيجية جديدة تأتي طهران على رأس المتضرّرين منها والأكثر تأثّراً بالمعادلات الاقتصادية التي ستنتج عنها.

يعيد المشروع ربط تركيا بكلّ دول شرق آسيا والمحيط الهندي عبر الأراضي العراقية، وبالتالي سيكون بمقدروها تقليل اعتمادها على الممرّ البرّي الذي يصلها بالصين عبر باكستان وإيران، وهو ما يعني التأثير سلباً على خطّ الترانزيت المتّجه من الشرق إلى الغرب والذي يشكّل أحد الرهانات الإيرانية للعب دور في معادلات التجارة الدولية والجيوقتصادية.

تتعدّى المصالح التركية من خطّ التنمية العراقي المصالح والمنافع الاقتصادية، إذ من المفترض أن تشهد المرحلة المقبلة ارتفاعاً في منسوب التعاون الأمنيّ بين بغداد وأنقرة، وهو الشرط اللازم من أجل توفير الأرضيّة لهذا المشروع الاستراتيجي.

إذا ما كانت بغداد قد مهّدت لزيارة إردوغان بإعلان أو إدراج حزب العمّال الكردستاني على لائحة المنظّمات الإرهابية، فإنّ الترجمة العملية لهذا الإعلان، وانسجاماً مع مصالح هذا المشروع الاستراتيجي، أن تحصل تركيا على حرّية العمل العسكري ضدّ هذه الجماعات في مناطق انتشارها في جبال إقليم كردستان، بخاصة في محافظة دهوك التي من المفترض أن تكون نقطة الوصل البرّي لهذا الطريق بين الأراضي التركية والعراقية وصولاً إلى منطقة سنجار في محافظة الموصل. وهو الأمر الذي شكّل محوراً أساسياً في المباحثات التي أجراها إردوغان مع قيادة الإقليم الكردي بعد ختام زيارته لبغداد.

الإمارات تُعتبر الشريك الاقتصادي الثاني لإيران بعد الصين بواقع 27 مليار دولار، بالإضافة إلى حديثه عن الدور الذي تلعبه الإمارات في تجارة الترانزيت

ضرب حزب العمال الكردستاني يعني إلى حدّ كبير ضرب الورقة الكردية التي تمسك بها طهران في محيطها الجيوسياسي للتأثير على مسار المعادلات التركية في العراق وسوريا، إضافة إلى أنّه يضعف حليفها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي بقيادة بافل طالباني، ويضرب كلّ الجهود التي بذلتها لجعله منافساً قويّاً لغريمه الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني الحليف التاريخي لأنقرة.

ضرب الطّموحات الإيرانيّة

الإصرار العراقي على استكمال تنفيذ بناء ميناء الفاو الكبير، الذي يعتبر الشريان الحيويّ والعصب الرئيس لمشروع طريق التنمية المركّب من خطوط سكك حديد لنقل البضائع والنفط والغاز، وطرق النقل البرّي، وما يعنيه من عملية تنمية حقيقية ونشطة تشمل المحافظات العشر العراقية التي يمرّ بها، يقابله تبخّر الطموحات الإيرانية للعب دور الـ”المركز” لعمليات الترانزيت بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب باتجاه أوروبا، وانتقاله عملياً إلى ميناءي الفاو العراقي ومرسين التركي، بالإضافة إلى ضرب الأهمّية والدور الاقتصادي والتجاري لموانئها على المحيط (تشابهار) والخليج (بوشهر وخورمشهر) وخسارتها للعب دور صلة الوصل التي تربط الهند من جهة، وروسيا ودول أوراسيا من جهة أخرى، بالمياه الدافئة للخليج.

مقابل الخطوات المتسارعة لتنفيذ وإنهاء خطّ التنمية، لا تبدي الحكومة العراقية الكثير من الحماسة لتنفيذ اتفاقية الربط السككيّ التي وقّعتها مع طهران لربط مدينة خورمشهر الإيرانية مع البصرة العراقية بطول 37 كيلومتراً، والتي تسمح لطهران بأن تكون وسيط الاتصال والربط بين الصين ودول أوراسيا وروسيا وآسيا الوسطى بسواحل البحر الأبيض المتوسط من جهة، وبدول ومناطق الشمال الأوروبي من جهة أخرى، بخاصة أنّ بغداد تتمسّك بحصر مهمّة هذا الربط في حال إنجازه بنقل الركّاب فقط، وهو ما يفقده القيمة الاستراتيجية والجيوقتصادية لطهران.

 باكو تسعى إلى السيطرة على شريط من الأراضي الأرمينية بمحاذاة الحدود مع إيران لإحداث ممرّ برّي يربط بين منطقة إقليم نخجوان والبرّ الأذربيجاني

أذربيجيان تحتل ممر أرمني..

إن سارت الأمور كما تشتهي السفينة التركية، فمن المتوقّع أن تشهد الحدود الشمالية لإيران باتجاه القوقاز الجنوبي عودة إلى التصعيد من الناحية الأذربيجانية بدعم من أنقرة لإحداث تغيير في المجال الجيوسياسي للحدود بين باكو وأرمينيا، خاصة أنّ باكو تسعى إلى السيطرة على شريط من الأراضي الأرمينية بمحاذاة الحدود مع إيران لإحداث ممرّ برّي يربط بين منطقة إقليم نخجوان والبرّ الأذربيجاني، الأمر الذي يفرض على طهران إعادة النظر في الممرّ البرّي “زنكزور” الذي يربطها مع جورجيا وشمال أوروبا عبر الأراضي الأرمينية.

إيران والإمارات

دخول دولة الإمارات على خطّ الاستثمار في خطّ النقل هذا والممرّ المركّب بين البرّ والبحر، يشكّل مؤشّراً إلى نقلة نوعية في الاهتمامات الإماراتية وموقعها على الخريطة الدولية للموانىء العالمية، وحصّتها من طرق الترانزيت الأساسية أو الواعدة في المستقبل.

تأتي الخطوة الإماراتية بعد أقلّ من سنة على توقيع اتفاقية طريق الهند – أوروبا على هامش قمّة العشرين التي استضافتها نيودلهي في أيلول 2023 برعاية من الرئيس الأميركي جو بايدن ومباركته. وهو الطريق الذي يمرّ عبر السعودية والإمارات والأردن وصولاً إلى ميناء حيفا على البحر الأبيض المتوسط، ومنه إلى اليونان والبرّ الأوروبي. من المفترض به أن يكون بديلاً أميركياً أو منافساً لطريق “الحزام والطريق” أو طريق الحرير الصيني.

اتفاقية نيودلهي للخطّ الهندي – الأوروبي عبر الخليج، أخرجت من معادلة هذا المعبر أو الممرّ البحري – البرّي كلّاً من قطر وتركيا والعراق، أي أبعدتها عن أحد أهمّ خطوط الترانزيت للتجارة الدولية الواعدة، إلا أنّ التطوّر الحاصل بسبب التوقيع الذي شهدته بغداد في 22 نيسان، ومشاركة دولة الإمارات ممثّلة بوزير الطاقة والبنى التحتية سهيل بن محمد المزروعي، حملا دلالات جديدة حول مستقبل هذه المنطقة في معادلات ممرّات الترانزيت الدولية.

لن يكون خطّ التنمية العراقي الجديد مجرّد شراكة تهدف إلى تمويل مشروع استثماري مع قطر، بل سيكون مشروعاً طموحاً يلبّي مصالح الدول المشاركة فيه

ربّما أولى هذه الدلالات أنّ دولة الإمارات لمست حجم الصعوبات التي تواجه الممرّ الهندي – الأوروبي بعد التطوّرات الأمنيّة والعسكرية التي شهدتها المنطقة جرّاء الحرب الدائرة بين تل أبيب وحركة حماس في قطاع غزة وما يرافقها من توتّرات على مختلف الجبهات التي أخذت مساراً مختلفاً بعد فجر يوم الرابع عشر من نيسان والهجوم الصاروخي والمسيّرات الإيرانية، وبالتالي حصر خياراتها في اتّجاه واحد قد يضع طموحاتها في دائرة التهديد.

بالإضافة إلى ذلك، لن يكون خطّ التنمية العراقي الجديد مجرّد شراكة تهدف إلى تمويل مشروع استثماري مع قطر، بل سيكون مشروعاً طموحاً يلبّي مصالح الدول المشاركة فيه ببناء شبكة طرق وممرّات استراتيجية تضعها على خريطة التنافس الدولي وتستقطب الكثير من الشركاء التجاريين نتيجة التسهيلات التي يقدّمها هذا المشروع لجهة الوقت والأكلاف الماليّة.

إقرأ أيضاً: “الورقة المصريّة” بين تردّد نتنياهو ورهانات السّنوار

من هنا يمكن فهم الزيارة التي قام بها وزير النقل والإسكان الإيراني مهرداد بذرباش لأبو ظبي وجاءت بعد زيارة إردوغان لبغداد، وحديثه عن الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، فالإمارات تُعتبر الشريك الاقتصادي الثاني لإيران بعد الصين بواقع 27 مليار دولار، بالإضافة إلى حديثه عن الدور الذي تلعبه الإمارات في تجارة الترانزيت عبر الممرّ التجاري المتّجه من الجنوب إلى الشمال نحو دول آسيا الوسطى وروسيا.

مواضيع ذات صلة

إيلي صعب.. إيلون ماسك والمرشد

كان يمكن لمحاولات إيران التهدئة مع الولايات المتحدة، عبر تقارير عن مفاوضات بين سفيرها في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني ‏والملياردير الأميركي إيلون ماسك (نفتها…

المعارضة تستعين بالمماطلة لتعطيل ترامب؟

الفوز الكبير الذي حقّقه دونالد ترامب والحزب الجمهوري في انتخابات مجلسَي النواب والشيوخ، زاد من قناعة الرئيس المنتخب بأنّ الشعب الأميركي منحه تفويضاً لقيادة البلاد…

واشنطن وطهران: إدارة صراع أم صفقة؟

لم يكن الموقف الإيراني من انتخاب الرئيس الأميركي الجديد – القديم دونالد ترمب موقفاً سلبياً بالكامل، ولم يكن في الوقت نفسه إيجابياً أيضاً. فالحذر الشديد…

أسرار تسميات ترامب: مصيرنا بيد إيلون ماسك

يرسم المتابعون والعارفون بعقل دونالد ترامب في واشنطن صورة واضحة لما يفكّر فيه الرجل، وما سيقوم به، خصوصاً بما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط.   يعترفون…