تقفُ المنطقة برمّتها على صفيح ساخن بانتظار جوابيْن:
الأوّل: جواب رئيس حركة حماس في غزّة يحيى السّنوار على الورقة المصريّة التي صاغها رئيس الاستخبارات المصريّة العامّة اللواء عبّاس كامل يومَ الجمعة الماضي. أثناءَ زيارته لتل أبيب، والتي حمَلت في سطورها تنازلات إسرائيليّة أساسيّة.
الثّاني: أن يحسِمَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو أمره بالموافقة رسميّاً على صفقة التبادل. التي ستكون بداية النّهاية لحربه على غزّة المُستمرّة منذ أكثر من 200 يوم.
باتَ على نتنياهو أن يختارَ بين وقف الحرب والمُضيّ بطريق السّلام عبر التطبيع مع السّعوديّة وتحسين علاقاته بالإدارة الأميركيّة، أو الرّضوخ لضغوط الأحزاب المُتطرّفة في حكومته التي تُريد إبادة ما بقي من قطاع غزّة واجتياح رفح، ولو كلّف ذلك حرباً واسعة تُشعل المنطقة بأسرها.
مطلع الأسبوع، كانت السّعوديّة تشهدُ “حجّاً سياسيّاً اقتصاديّاً” بحسب ما ذكرت وكالة رويترز. خلال يوميْن، جمَعَت المملكة “السّداسيّ العربيّ”، ومنتدى دافوس الاقتصاديّ، ومجلس التّعاون الخليجيّ.
من الرّياض كانَ الموقف واضحاً: وقف الحرب وحلّ الدّولتيْن كأساس لاستقرار المنطقة، واستكمال الاتفاق الاستراتيجي مع واشنطن. الذي اعتبره وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن أنّه باتَ قريباً.
شهِدَت المنطقة تحرّكات سياسيّة ودبلوماسيّة وأمنيّة في الأيّام الأخيرة. كلّ هذه الحراكات مُترابطة بعضها ببعض، أكان بصورة مباشرة أم غير مُباشرة.
الهدف واضحٌ ومعلومٌ: محاولة وقف الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، ومعها جنوب لبنان.
1- زيارة وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن للمملكة العربيّة السّعوديّة واجتماعه بالسّداسيّة العربيّة التي تضمّ إلى جانب السّعوديّة: قطر ومصر والإمارات والأردن والسّلطة الفلسطينيّة.
2- زيارة وزير الخارجيّة الفرنسيّ ستيفان سيجورنيه لبيروت وتل أبيب والرّياض أيضاً.
3- “الزيارة العائليّة” التي يقوم بها المبعوث الأميركيّ الخاص آموس هوكستين لتل أبيب والتي تخلّلها لقاءٌ مع وزير الدّفاع يوآف غالانت الخميس الماضي، ومع الرّئيس الإسرائيليّ يتسحاق هرتسوغ السّبت.
يقول مصدر إقليميّ لـ”أساس” إنّ تل أبيب لم تُعارض هذه المرّة الانسحاب من “نتساريم” بعدما كانت مُتصلّبة بهذا الشأن
4- زيارة رئيس المخابرات العامّة المصريّة اللواء عبّاس كامل لتل أبيب الخميس والجمعة. نتَجَ عنها مُقترح مصريّ جديد قد يفتح آفاق التوصّل إلى تبادل للأسرى وهدنة شهرٍ في قطاع غزّة.
5- زيارة وفد حركة حماس برئاسة نائب رئيسها في غزّة خليل الحيّة للقاهرة الإثنين، وعودته المُرتقبة بجواب الحركة.
تترابط هذه الاجتماعات واللقاءات بعضها ببعض. فلا حلّ في جنوب لبنان من دون حلّ في غزّة. ولا تطبيع بين السّعوديّة وتل أبيب من دون وقف الحرب أيضاً. أساس نجاح اللقاءات يعتمِدُ على نجاح المُبادرة المصريّة الرّامية إلى ترسيخ هُدنة في المرحلة الأولى لمدّة تراوح بين شهر و40 يوماً في قطاع غزّة.
الورقة المصريّة
بحسب معلومات “أساس”، استطاع اللواء عبّاس كامل أن يُقنِع الجانب الإسرائيليّ بالقَبول بتبادلٍ أوّليّ لعدد يراوح بين 20 و30 أسيراً إسرائيليّاً لدى حركة حماس، مُقابل مئات الأسرى الفلسطينيين، منهم محكومون بالمُؤبّد، ويومِ تهدئةٍ عن كلّ أسير، بعدما كانت تل أبيب طوال الأسابيع الماضية تتمسّك بالإفراج عن 40 أسيراً، وترفض الإفراج عن بعض الأسماء البارزة من حركة حماس.
كما تشمل المرحلة الأولى تدفّق المساعدات الإنسانيّة عبر مئات الشّاحنات التي ستدخل يوميّاً.
في حال كُتِبَ للمرحلة الأولى النّجاح، تبدأ مُباحثات المرحلة الثّانية، التي تتضمّن:
– تبادلاً لباقي الأسرى، مُقابل آلاف الأسرى الفلسطينيين من مختلف الأحكام والفصائل، وهدنة قد تصل إلى عامٍ كامل.
– عودة النّازحين من جنوب القِطاع إلى شماله، مع انسحابٍ إسرائيليّ من المنطقة الفاصلة بين الشّمال والجنوب. المعروفة باسم “ممرّ نتساريم” أو طريق صلاح الدّين.
– بناء الثّقة بين حماس والجانب الإسرائيليّ تمهيداً لبحث الوقف الشّامل لإطلاق النّار وإتمام الانسحاب الإسرائيليّ من القطاع.
يقول مصدر إقليميّ واسع الاطّلاع لـ”أساس” إنّ تل أبيب لم تُعارض هذه المرّة الانسحاب من “نتساريم” بعدما كانت مُتصلّبة بهذا الشأن. كما استطاع اللواء كامل أن ينتزع من تل أبيب قبولاً ببحث الوقف الشّامل لإطلاق النّار في حال نجحت المرحلة الأولى من الاتفاق.
يعتمد السّنوار على عوامل عديدة يعتقد أنّها حملت وستحمل تل أبيب على تقديم تنازلات تصل في نهاية المطاف
رهانات السّنوار
توحي الأجواء في المنطقة بـ”تفاؤلٍ حذر” بشأن المُقترح المصريّ. تترقّب القاهرة وتل أبيب الجواب المكتوب الذي سيحمله خليل الحيّة بعد التّواصل مع رئيس الحركة في غزّة يحيى السّنوار. إذ إنّ مصير كلّ الجبهات من رفح إلى جنوب لبنان مُتوقّف على جواب “أبي إبراهيم” الذي يحاول انتزاع ما استطاع من مكاسب سياسيّة من الإسرائيليين تضع بنيامين نتنياهو في “خانة المهزوم”.
يعتمد السّنوار على عوامل عديدة يعتقد أنّها حملت وستحمل تل أبيب على تقديم تنازلات تصل في نهاية المطاف إلى الموافقة على صفقة تبادل ضخمة ووقفٍ شامل لإطلاق النّار:
1- المُعارضة الأميركيّة المُستمرّة لعمليّة عسكريّة في مدينة رفح الحدوديّة. إذ تشترطُ واشنطن أن تُعدّ تل أبيب خطّة شاملة وواضحة وقابلة للتنفيذ تهدف إلى إجلاء المدنيين وعدم التّعرّض لهم. وهذا الأمر على أرض الواقع غير متوفّر.
2- بحسب معلومات “أساس” أبلغَ عبّاس كامل الإسرائيليين أنّ بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي في حال شنّت تل أبيب على رفح عمليّة عسكريّة “ستُعرّض اتفاقيّة كامب ديفيد للاهتزاز”، وأنّ القاهرة “ستتّخذ الإجراءات التي تراها مناسبة في حال خُرِقَت الاتفاقيّة. وكانَ الهدف تهجير سكّان القطاع إلى الجانب المصريّ من الحدود”.
3- الحراك غير المسبوق في الجامعات الأميركيّة ضدّ الحرب الإسرائيليّة على غزّة. فتوقيت الحراك قبل أشهر من موعد الانتخابات الرّئاسيّة يضع إدارة الرّئيس جو بايدن في موقف صعب. خصوصاً أنّ أساس الحراك في الجامعات يعتمد على الطّلّاب من أصولٍ عربيّة وإسلاميّة واليهود التقدّميين والحركات اليساريّة، التي صبّت أصواتها بأغلبيّةٍ ساحقة في انتخابات 2020 لمصلحة بايدن. وهذا ما يُهدّد عودته إلى البيت الأبيض في حال لم يستطع وقف الحرب قبل تشرين الثّاني المُقبل. يتزامن الحراك أيضاً مع استقالة المتحدّثة باسم الخارجيّة الأميركيّة هالة غريط احتجاجاً على سياسة بايدن المؤيّدة بالكامل لإسرائيل.
توحي الأجواء في المنطقة بـ”تفاؤلٍ حذر” بشأن المُقترح المصريّ. تترقّب القاهرة وتل أبيب الجواب المكتوب الذي سيحمله خليل الحيّة
4- استعداد المحكمة الجنائية الدّوليّة في لاهاي لإصدار مُذكّرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو ووزير الدّفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي. وعدد من ضبّاط الجيش الإسرائيليّ ومسؤولين من حماس.
هذا ما دفع ضبّاطاً كباراً في الجيش الإسرائيلي، بينهم 4 قادة وحدات ميدانية، إلى إعلان نيّتهم الاستقالة. بذلك يكون هؤلاء الضّبّاط على درب رئيس جهاز المخابرات العسكرية أهارون حاليفا الذي أعلنَ قبل أيّام استقالته بسبب إخفاقات “السّابع من أكتوبر”.
أمّا عن قادة الحركة، فقال مصدر في “حماس” لـ”أساس” إنّ القائد العسكريّ السّابق للحزب في لبنان عماد مغنيّة استطاع أن يزور بلداناً أوروبيّة وعربيّة عديدة. على الرّغم من مذكّرات التوقيف التي كانت صادرة بحقّه، وهذا لا يُشكّل عقبة لقادة حماس، بل لنتنياهو ومسؤوليه السّياسيين والعسكريين.
5- إبلاغ السّعوديّة لإسرائيل عبر الولايات المُتحدة أنّ على تل أبيب أن تختار بين اجتياح رفح أو وقف الحرب والعلاقات مع السّعوديّة وإقامة دولة فلسطينيّة. بحسب ما كشف الكاتب الأميركي توماس فريدمان، المُقرّب من إدارة بايدن، في مقالته الأخيرة في نيويورك تايمز.
6- تترقّب واشنطن أن يُقدّم وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن بحلول الثّامن من الشّهر الجاري تقريره إلى الكونغرس. حول ما إذا كان يجد ضمانات موثوقة من تل أبيب بأنّ استخدامها للأسلحة الأميركية في غزة لا ينتهك التشريعات الأميركيّة أو القانون الدولي.
7- تزايد الضّغوط الدّاخليّة على نتنياهو من قِبَل أحزاب المُعارضة وأهالي الأسرى لدى حماس للقبول بصفقة للتبادل ولو مُقابل تنازلات من تل أبيب.
8- ارتفاع الفاتورة الاقتصاديّة الإسرائيليّة وارتفاع الأسعار، بعد ارتفاع كلفة الشّحن البحريّ بسبب عمليّات الحوثيين في البحر الأحمر.
يواجه نتنياهو هو الآخر عقبات داخلَ حكومته، أبرزها مُعارضة ثلاثيّ وزراء الحركة الصّهيونيّة الدّينية
9- يشير مصدر بارز في “حماس” لـ”أساس” إلى أنّ مقطع الفيديو الأخير الذي بثّته كتائب القسّام للأسيريْن كيث سيغال (64 عاماً) من كفار عزة، وعومري ميران (47 عاماً) من كيبوتس ناحل عوز. أظهرَ أنّ تل أبيب وواشنطن لا تمتلكان أيّ معلومات حولَ مصير الأسرى. كما أنّ توقيت البثّ بعد 200 يومٍ من الحرب تزامناً مع عيد الفصح اليهوديّ أوجدَ حالة من الغضب ضدّ نتنياهو. الذي يُعرقل محاولات التّوصّل إلى صفقة للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.
هذا عن السّنوار.. ماذا عن نتنياهو؟
لا يُمكن الجزمَ أنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ قد يُوافق على إتمام الصّفقة مع “حماس”، وإن شاركَت تل أبيب بصياغة الورقة المصريّة وقدّمت تنازلات. إذ يواجه نتنياهو هو الآخر عقبات داخلَ حكومته. أبرزها مُعارضة ثلاثيّ وزراء الحركة الصّهيونيّة الدّينية: بتسلئيل سموتريتش، وإيتامار بن غفير وأفيخاي إلياهو، لأيّ صفقة قد توقف اجتياح رفح.
وصلَ الحال ببن غفير وسموتريتش أن هدّدا نتنياهو بحلّ الائتلاف اليميني في حال عزفَ عن اجتياح رفح. وهذا إن حصلَ يعني أنّ “بي بي” سيكون أمام خيارٍ من اثنين أحلاهما مرّ:
باتَ على نتنياهو أن يختارَ بين وقف الحرب والمُضيّ بطريق السّلام عبر التطبيع مع السّعوديّة وتحسين علاقاته بالإدارة الأميركيّة
1- الدّعوة إلى انتخابات تشريعيّة مبكّرة قد تأتي نتائجها بعكس ما يتمنّاه ويُمسي خارج السّلطة. وبالتّالي يعني فقده للحصانة السّياسيّة التي تبعد عنه المحاسبة بقضايا الفساد وتحقيقات “السّابع من أكتوبر”.
2- تقديم تنازلات كبرى للمعارضة، وتحديداً ليائير لابيد وبيني غانتس لتشكيل حكومة من دون “الصّهيونيّة الدّينيّة”. وهذا يعني أيضاً ضربة سياسيّة قاصمة له. إذ إنّ لابيد وغانتس، ومعهما الجنرالان غادي آيزنكوت وغابي أشكينازي، على علاقة ممتازة مع إدارة بايدن الذي لا ينظر بارتياح إلى نتنياهو منذ كانَ الأوّل نائباً للرّئيس في عهد باراك أوباما بين عامَي 2008 و2016.
إقرأ أيضاً: ماذا يحدث في “القنوات الخلفيّة” بين واشنطن وطهران؟
تنتظر غزّة من بيت حانون إلى رفح ومعها جنوب لبنان جواب يحيى السّنوار. فإمّا أن يمضي قُدماً بصفقة التبادل ويبدأ الحلّ “السّياسيّ – الجراحيّ” في المنطقة برمّتها. على أساس الورقة المصريّة في غزّة، والورقة الفرنسيّة (الأميركيّة) في لبنان. وإمّا أن تذهب الجبهات نحوَ تصعيدٍ جديدٍ ودورة جديدة من المحاولات السّياسيّة على وقع الانتخابات الأميركية ورسم الخرائط السياسيّة الجديدة في المنطقة.
لمتابعة الكاتب على X: