المعركة الأشرس بعد غزّة

مدة القراءة 7 د

سواء نجحت إسرائيل في تفكيك بنية المقاومة المسلّحة في قطاع غزة بكلّ فصائلها أم لم تنجح، بمعركة فاصلة في رفح أم من دونها، فإنّ الدمار الشامل أصاب القطاع، وكأنّ قنبلة نووية قد ضربته لكن من دون إشعاعات، أو زلزالاً شبيهاً بالزلزال الذي ضرب هاتاي في جنوب تركيا العام الماضي لكن من دون انزياحات جيولوجية. النجاح الوحيد لإسرائيل في أطول حروبها وأشدّها، هو في شراء الوقت والهدوء في جبهتها الجنوبية لسنوات مقبلة.

 

سيحاول قادة إسرائيل في المفاوضات المعقّدة الجارية عبر الوسطاء إلى تحقيق أكبر مكاسب تكتيكية واستراتيجية ممكنة، أقصاها تفكيك البنية العسكرية، وتدمير الأنفاق أو تحييدها تماماً، وإخراج قادة الميدان من القطاع إلى المنفى، وعلى رأسهم محمد ضيف ويحيى السنوار، وفي أدناها سريان أطول هدنة ممكنة، ومن دون وقف رسمي لإطلاق النار بخلاف ما كان يجري في الجولات السابقة، بما يسمح للقوات الإسرائيلية وأجهزتها الأمنيّة. التوغّل في القطاع وتنفيذ اعتقالات واغتيالات بحسب الحاجة، على غرار الحال الساري في الضفة الغربية منذ ربع قرن، عقب إنشاء السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلّة عام 1994، بناء على اتفاقية غزة-أريحا، وبموجب اتفاقيات أوسلو عام 1993. وهو ما يقتضي تأسيس سلطة فلسطينية ما في غزة متعاونة مع الاحتلال، بعد القضاء على المقاومة، أو إضعافها بشكل كبير حتى تصبح بمستوى المقاومة في الضفة الغربية أو أقلّ.

وعلى هذا، فإنّ وراء الشعارات الكبيرة (تدمير حماس، النصر الكامل، تغيير برامج التربية وما إلى ذلك)، أهدافاً عمليّة، متفاوتة في واقعيّتها، أو أنّ نتائجها الأخيرة ستكون وفقاً لحسابات الميدان وثمراته، فكلّما ضعفت المقاومة في غزة، ارتفع سقف الشروط الإسرائيلية، والعكس صحيح.

من الآن يمكن تصوّر اشتراطات إسرائيل بعد انتهاء الحرب العسكرية عملياً، لا رسمياً، وهذا ما تركّز عليه أيضاً المقاومة الفلسطينية

إلا أنّه من ملاحظة سير المفاوضات بالوساطة بين نتنياهو والسنوار، والتنازلات الضئيلة التي تقدّم بها كلّ طرف. يمكن القول إنّ الموقف الفلسطيني أصلب نسبياً في المفاوضات، على الرغم من الدمار الشديد الذي أصاب النسيج الاجتماعي في القطاع، من خلال الاستهدافات الواسعة للعائلات التي ينتمي إليها القسّاميون، وكذلك تصفية الكوادر الإعلامية والطبّية والأكاديمية. فهم بنظر إسرائيل أهداف عسكرية مشروعة، والإعلام والطبابة والبحث الأكاديمي مجالات حيوية لأيّ مقاومة شعبية، وهم يريدون تجفيف البركة كما يقال في علم حرب العصابات. ومن وسائل تجفيف الموارد، إبادة البيئة الحاضنة للمقاومة، وفي قطاع غزة هي كلّ السكان تقريباً.

غزة

الدّمار الشّامل المقصود لذاته

يبلغ حجم الأنقاض في غزة حوالى 37 مليون طن، أو 300 كيلوغرام لكلّ متر مربع، وفقاً لتقدير أجرته الأمم المتحدة في منتصف نيسان الفائت. وبحسب خبراء الأمم المتحدة، يتطلّب رفع الأنقاض 14 عاماً فيما لو استُخدمت 100 شاحنة للتحميل. فكم تحتاج غزة لتعمير ما هُدّم؟ ستحتاج غزة إلى وقت طويل جداً حتى تبلسم جراحها. كي ترفع الأنقاض أوّلاً، وتنتشل جثث أبنائها وبناتها وتدفنهم في المقابر المخصوصة، بعد ترميم المقابر التي جرفتها الآلة الإسرائيلية. لا بدّ من تحديد مصير المفقودين، شهداء كانوا أم أسرى. أن يُلمّ شتات الأسر المفجوعة والمفكّكة. أن تصدر قوائم محدّثة تباعاً من الشهداء والناجين. وأن توزّع المسؤوليات لرعاية الأيتام والأرامل، من ضمن التكافل الاجتماعي. وأن تُحيى مؤسّسات المجتمع تدريجياً من مستشفيات ومدارس وجامعات وإدارات.

والأكثر صعوبة أن توضع الخطط الهندسية المناسبة لتعمير القطاع. وفق خطّة زمنية مضغوطة، فكلّ وقت ضائع يخدم استراتيجية الاحتلال في القضاء على معالم الحياة، وحرمان الغزّيّين من فرص الانبعاث. وهنا تبرز ورقة ضغط قويّة بيد إسرائيل وحلفائها، وهي ورقة الإعمار والمساعدات، لاستكمال أهداف الحرب، بوسائل أخرى، غير السجّادة النّارية والقصف الاستراتيجي بالقنابل العميقة. وتتلخّص أهداف الحرب في القضاء على أيّ تهديد محتمل على إسرائيل انطلاقاً من غزة.

يبلغ حجم الأنقاض في غزة حوالى 37 مليون طن، أو 300 كيلوغرام لكلّ متر مربع، وفقاً لتقدير أجرته الأمم المتحدة

وإذا كان من شبه المستحيل إخراج المقاومين من أنفاقهم طوعاً أو قسراً، أو إزالة شبكة الأنفاق تماماً، وهذا يتطلّب أوّلاً، إطفاء أيّ إمكانية لبقاء المقاومة في غزة، فوق الأرض أو تحتها، فإنّ السيناريو الأقرب، وهو الذي عملت عليه حكومة نتنياهو منذ اللحظة الأولى للهجوم المضادّ. هو التدمير المنهجي لكلّ ما هو فوق الأرض، كي يصبح التعمير لاحقاً موازياً ومترافقاً مع نبش الأنفاق المحتملة وجرفها. ولهذا السبب تحديداً، يصرّ رئيس الحكومة الإسرائيلية على اجتياح رفح، سواء توافق الطرفان المتحاربان على صفقة تبادل الأسرى والتهدئة أو لا. فمنطقة رفح التي تضمّ حالياً أكثر من نصف سكّان القطاع (أكثر من مليون نسمة)، هي المنطقة الحضرية الأخيرة التي لم تُدمّر بعد، كما يرغب الإسرائيليون. يريدون تدمير المنطقة الواقعة في أقصى جنوب القطاع، لا تدمير الكتائب الأخيرة لحركة حماس. بل يسعون إلى تدميرها بذريعة ملاحقة حماس، على الرغم من أنّ اجتياح رفح قد يعني القضاء على الأسرى الإسرائيليين أيضاً.

إعمار غزّة هو الأولويّة المطلقة

من الآن يمكن تصوّر اشتراطات إسرائيل بعد انتهاء الحرب العسكرية عملياً، لا رسمياً. وهذا ما تركّز عليه أيضاً المقاومة الفلسطينية وتشترطه للتوقيع على الصفقة الشاملة. ستتركّز مطالب إسرائيل في نقطة أساسية. وهي تطهير غزة كاملاً من أيّ مقاومة مسلّحة، وحتى تحقيق ذلك ستمنع سلطات الاحتلال رفع الأنقاض وإدخال موادّ البناء من أيّ نوع، بوصفها موادّ مزدوجة الاستعمال (ما يُستخدم لإعمار الشقق السكنية هو نفسه يمكن استعماله في بناء الأنفاق). أمّا قضية الأسرى، فباتت ذات أهمية ثانوية مع الوقت. فبعدما اعتُقل عشرات العسكريين والمدنيين الإسرائيليين من غلاف غزة إبّان عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. بهدف تصفير السجون الإسرائيلية من آلاف المعتقلين الفلسطينيين. تبدّلت الأولويّات إثر التدمير الشامل للحياة في القطاع، وأضحى شرط إعمار غزة على رأس مطالب المقاومة، إلى جانب السماح للسكّان بالعودة إلى شمال القطاع.

من وسائل تجفيف الموارد، إبادة البيئة الحاضنة للمقاومة، وفي قطاع غزة هي كلّ السكان تقريباً

يُضاف إلى ذلك أنّ إعادة الحياة إلى القطاع، وتعمير ما تهدّم، يكلّف عشرات المليارات من الدولارات. فمن سيشارك في تمويل الإعمار؟ وما هي شروط الدول المانحة؟ وهل تسمح حكومة إسرائيل بتحويل الأموال إلى القطاع. كما كانت تفعل من قبل، حتى انتقدوا نتنياهو نفسه بأنّه في السنوات الماضية. كان يموّل حماس لأنّ حكومته كانت توصل رواتب الموظّفين في السلطة القائمة في غزة وكذلك الدعم المالي القطري. وهو الآن يرفض وجود السلطة الفلسطينية في غزة، ويروّج للاحتلال العسكري المباشر، أو لقوّة عميلة له. بمعنى أنّ الموظفين السابقين في غزة لن يحصلوا على أيّ راتب بعد الآن.

إقرأ أيضاً: بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

بطبيعة الحال، لم ينجح الحصار الإسرائيلي المشدّد منذ عام 2007 في وقف حفر الأنفاق. ولا تمكّن من ردع هيئة التصنيع في المقاومة وكتيبة الهندسة عن ابتكار الأدوات اللازمة. وجلب الموادّ الأساسية لتطوير الأسلحة الدفاعية والهجومية، التي ظهرت فعّاليّتها في الحرب الأخيرة. لكنّ هذه الجولة مختلفة، بمقدّماتها وأسبابها (هجوم 7 أكتوبر)، ومختلفة أيضاً بعواقبها ونتائجها، المباشرة وغير المباشرة، وبتداعياتها السياسية بحيث خلطت المقاومة أوراق المنطقة وأولويّاتها حتى تبدّلت صفحة الصراع وساحاته. كما رُسمت توقّعات جديدة بناء على التجارب الميدانية للأسلحة الجديدة والتكتيكات المبتكرة.

هذا يدفع إلى الاستنتاج أنّه مهما يكن شكل الصفقة بين الحركة وإسرائيل. ومهما كانت مدّة الهدنة، لأسابيع أو أشهر أو سنوات، فإنّ نقاط الصدام والانفجار ستبقى كما هي. وهو ما سيمنع سريان أيّ هدنة حقيقية، لأنّها ببساطة ستعني أنّ إسرائيل خسرت الحرب، ليس بالنقاط بل بالضربة القاضية.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…