بعد غزة.. هل يبقى اعتدال؟

مدة القراءة 7 د

المذبحة المروّعة التي تُدار فصولها في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث التواطؤ الغربي شبه الكامل على منح إسرائيل كلّ التسهيلات والإمدادات والمساعدات لانتهاك كلّ ما أبدعه الغرب في القرون الثلاثة الأخيرة من قواعد ومعايير وقوانين، للحرب كما للسلام، دونما رادع ولا عقاب، هي أفضل وصفة لصناعة التطرّف والتشدّد والتوحّش، من باب الردّ بالمثل. هذا ما يدركه العقلاء في أوروبا كما في الولايات المتحدة نفسها. بل إنّ الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، بإصراره على فتح نافذة للضوء في آخر النفق، من خلال ما يُسمّى “حلّ الدولتين”. يحاول استدراك ما سيحدث في السنوات وربّما الأجيال المقبلة. فقطاع غزة أضحى مقبرة ضخمة للأطفال. لكنّ عشرات الآلاف منهم سينجون من دون آبائهم، وفي عقولهم النديّة ذاكرة لن تُمحى من الأهوال!

هل نتنياهو غافل عمّا ترتكبه يداه وتخطّط له الطغمة المتطرّفة المتحلّقة حوله. حين يطمح إلى مجزرة كبرى أو نكبة ثانية تمهّد للتأسيس الثاني لدولة إسرائيل، على غرار ما حدث عام 1948؟ وهل هو يدفع الفلسطينيين عمداً إلى الجانب المظلم من الدنيا بإقفال كلّ المنافذ وسدّ كلّ الآفاق؟ ممّا يثير الاهتمام أنّه حاول صناعة أسطورة داعش في القطاع، أو “دعشنة” المقاومة الفلسطينية. عبر ضخّ الروايات الكاذبة عمّا جرى في غلاف غزة إبّان هجوم 7 أكتوبر، من فظائع وانتهاكات، أوّلاً لتحريض الرأي العامّ العالمي وحشده خلف إسرائيل، وثانياً لإصدار حكم الإعدام الجماعي على سكّان غزّة دونما اعتراض من أحد، وثالثاً لتبرير الفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي لاحقاً. فهل نحن أمام حلقة مفرغة من العنف والعنف المضادّ وموجة تطرّف هائل في العالم العربي والإسلامي ولدى أهل السُّنّة خاصة بعد حرب غزّة؟ وهل ثمّة إمكانية لاستدراك الأمر الآن؟

غزة جمعت المتناقضات الأيديولوجية على صفيح ساخن وستظلّ كذلك لمدّة غير معلومة، وهي فرصة للاستدراك والمراجعة وتصحيح الأخطاء

الشيطان واعظاً

في البدء لا بدّ من ملاحظة أنّ نتنياهو وهو يناور بالدم لتجديد السردية الصهيونية لعشرات السنين المقبلة. طرح فكرة غير معقولة، لليوم التالي، وتتلخّص بإعادة كتابة المناهج التربوية في غزّة بإشراف الاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي سيدوم إلى ما لا نهاية واضحة، لمعالجة التطرّف المزعوم الذي نتج عنه الهجوم على غلاف غزّة، ولاستدراك التطرّف اللاحق الناتج عن فظائع الجيش الإسرائيلي في القطاع. وكأنّ المشكلة في الإسلام، لا في العقيدة الصهيونية. وفي الوقت نفسه، يرفض “حلّ الدولتين” لأنّه سيكون بمنزلة المكافأة على ما يعتبره الإرهاب الفلسطيني الذي ضرب دولة الاحتلال، العام الماضي، ولا يتطرّق نهائياً إلى واقع الاحتلال، ولا إلى الطرد المنهجي للفلسطينيين من أرضهم، لا سيما في الضفة الغربية، وفي القدس الشرقية خاصة.

بالطبع لا يوجد عاقل في الغرب يؤمن بهذه المعادلة السخيفة، ولا حتى الإدارة الأميركية الأكثر تصهيناً في تاريخ الولايات المتحدة. لكنّهم كلّهم متواطئون بل خاضعون لابتزازات اللوبي اليهودي في أميركا وأوروبا، مع أنّهم يعلمون علم اليقين، وبالتفكير المجرّد، أن لا حلّ إلا بإقامة دولة فلسطينية ولو كانت شكليّة ومن دون سيادة حقيقية، ليس لنصب ميزان الحقّ والعدل. بل من أجل تهدئة النفوس الغاضبة في فلسطين وخارجها، بل تخديرها بالوعود المعسولة.

نتنياهو وهو يناور بالدم لتجديد السردية الصهيونية لعشرات السنين المقبلة، طرح فكرة غير معقولة لليوم التالي

سرديّة مضادّة للإرهاب

على الرغم من كلّ الظروف الملائمة لصناعة التطرّف والإرهاب، انفعالاً بما يرتكبه المتطرّفون في إسرائيل وأعوانهم في الغرب. إلا أنّ الصراع الحالي حافل بحالات لافتة للنظر توحي بصورة مغايرة، وهي على الشكل التالي:

– أوّلاً، في ظروف شديدة التعقيد إنسانياً، قتلت الآلة الإسرائيلية عشرات آلاف القتلى المدنيين، عمداً. كما تبيّن في التحقيقات الصحافية الغربية عن دور الذكاء الاصطناعي في إسرائيل بتوليد الأهداف بسرعة غير مسبوقة، إذ كانت الأولوية قتل الهدف (العضو في الحركة مهما كانت رتبته وموقعه) عندما يكون بين أهل بيته. لا في موقع عمله أو رباطه، وهو نوع من العقاب الجماعي المدروس.

غزة

ومع ذلك، حافظت المقاومة الفلسطينية على انضباطها، فلم تنزلق إلى نمط العمليات التفجيرية الاستشهادية التي عُرفت بها منذ عام 1993. وتكثّفت خلال الانتفاضة الثانية بين عامَي 2000 و2005، وهذا ما ينأى بها عن صورة تنظيم داعش الإرهابي، الذي استعمل العمليات الانتحارية بكثافة لا نظير لها في قتاله الشرس في سوريا والعراق، ضدّ التحالف الدولي. لا سيما في معركة الموصل التي دامت أكثر من 9 أشهر بين عامَي 2016 و2017. بل تميّزت المقاومة في غزّة في قتالها الأخير، بأساليب حرب المدن الكلاسيكية مع لمسات فلسطينية مبتكرة. أعادت رسم صورة الفدائي الذي يقاتل من مسافة صفر بأسلحة فردية من صناعة وطنية.

تميّزت المقاومة في غزّة في قتالها الأخير، بأساليب حرب المدن الكلاسيكية مع لمسات فلسطينية مبتكرة

– ثانياً، حظيت غزّة بتعاطف عالمي غير مسبوق، حيث عثر الآلاف من الشباب الأميركي والأوروبي على قضية يسعى من أجلها، ويناضل في سبيلها، مبتكراً الوسائل والنشاطات لدعمها، دونما كلل أو ملل، حتى إنّ شعار “فلسطين حرّة من النهر إلى البحر” تردّد في الشوارع الهادرة في دول التحالف الغربي المؤيّدة تقليدياً لإسرائيل. ولهذه التظاهرات الضخمة، التي شارك فيها المسلمون إلى جانب المسيحيين (متديّنين وعلمانيين) وبعض اليهود في تلك البلدان. وجه آخر لم تتطرّق إليه التحليلات بشكل جدّي ولا نظرت إلى دورها في وقاية تلك الدول من عوامل انتشار الإرهاب الانفعالي. فهذه التظاهرات تمتصّ غضب الشباب المسلم في الغرب، وتنأى به عن مُغريات الانضمام إلى الجماعات الإرهابية التي تستغلّهم عادة. لا سيما مع ظهور تبدّل في النظر إلى السردية الصهيونية.

– ثالثاً، إنّ انشغال الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في إطلاق العمليات العسكرية المساندة، بغضّ النظر عن فعّاليتها، أو ردعها للمذبحة الجارية في غزّة، وحتى الردّ الإيراني المحدود على إسرائيل، بإطلاق مئات المسيّرات والصواريخ المتعدّدة الأعيرة والأحجام، قد أسهما في تخفيف الاحتقان المذهبي الذي نما وتغذّى خلال السنوات العجاف ممّا سُمّي الربيع العربي، في العراق وسوريا واليمن. فغزة جمعت المتناقضات الأيديولوجية على صفيح ساخن، وستظلّ كذلك لمدّة غير معلومة، وهي فرصة للاستدراك والمراجعة وتصحيح الأخطاء وتسوية الأوضاع. وحتى لو بقي كلّ طرف على حاله ناص

 

باً سلاحه في الجبهات المتعارضة. إلا أنّ صدمة غزّة قلبت الأولويّات، فلا أرضية واضحة لتطرّف سنّي مزعوم، يُصنع على نار غزّة، بل العكس هو الصحيح.

قطاع غزة أضحى مقبرة ضخمة للأطفال، لكنّ عشرات الآلاف منهم سينجون من دون آبائهم

– رابعاً، تبقى مسألة أخيرة، لإكمال المشهد. وهي خروج العالم العربي خاصة من مشهدية الكسل الدبلوماسي، فليس من المعقول أنّ حدثاً هائلاً يقع بالقرب منّا وفي منطقة القلب في هذا العالم، حيث المذبحة والمجاعة وغير ذلك. ولا توجد مبادرات حقيقية لمواجهة منطق استباحة الدم العربي بهذا الشكل الفاضح. هذا التلكّؤ هو ما يصنع الخطر الآتي. ولا يمكن تلافيه إلا بصياغة مشروع عربي مثمر بعيداً عن محاولات التطبيع مع مجتمع صهيوني غير قابل للشفاء من عقدة العنصرية القاتلة.

إقرأ أيضاً: كيف تغيّر غزة وجه العالم؟

حلّ الأزمات البنيوية في المنطقة هو في استرداد العرب لدورهم الطبيعي. وريادتهم العالم الإسلامي لا ينافسهم فيها أحد كما أثبتت التجارب والوقائع. لا سيما ما كشفته حرب غزّة من محدودية الدور غير العربي في نصرة القضايا العربية.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…

أكراد سوريا في بحث جديد… عن دور ومكان

لم يعرف الأكراد منذ أن وُجِدوا الاستقرار في كيان مستقلّ. لم يُنصفهم التاريخ، ولعنتهم الجغرافيا، وخانتهم التسويات الكبرى، وخذلتهم حركتهم القومية مرّات ومرّات، بقدر ما…