عمليّة “طوفان الأقصى”، في غلاف غزة، في 7 أكتوبر الماضي، وما تلاها من هجوم إسرائيلي مدمّر، نقطة فاصلة بين تاريخين. ما قبل وما بعد. وليس من قبيل المبالغة القول إنّ حرباً عالمية تدور من خلال غزة، وعلى أنقاضها، بين معسكرين كبيرين. روسيا ومن خلفها الصين، وعدّة دول في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، تستفيد من هذا الصراع لتشذيب أظفار الغرب. وعلى رأسه الولايات المتحدة. ومعها شرائح متنامية من الشباب الأميركي والأوروبي المنتفض على الهيمنة الصهيونية في دولهم. وبالمقابل، أفادت المقاومة من الدعم السياسي العامّ لقضية فلسطين. ومن الدعم الدبلوماسي بوساطة الفيتو الروسي الصيني المشترك في مجلس الأمن ضدّ قرارات الإدانة والاتّهام بالإرهاب. ومن دعم مؤثّري الإعلام الجديد من المؤيّدين الجدد لفلسطين. لكنّ الأكثر إثارة للانتباه أنّ غزّة تغيّر وجه العالم. بما تكشفه من حقائق السياسات والأيديولوجيّات السائدة في الغرب خاصّة.
يعيش الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أسعد لحظات حياته خلال عامين من الحرب الطاحنة في أوكرانيا. فلولا هجوم “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، الذي أجبر الولايات المتحدة على تحويل خطّ إمداداتها العسكرية والاستخبارية والاقتصادية من أوكرانيا إلى إسرائيل… لما تغيّرت موازين القوى نسبياً في الميدان الأوكراني. وقد يتدهور أكثر بحلول الصيف لمصلحة موسكو. كما يؤكّد الخبراء العسكريون الغربيون. إن لم يتغيّر شيء. والأرجح إن لم تتوقّف حرب غزة، بطريقة أو أخرى.
عمليّة “طوفان الأقصى”، في غلاف غزة، في 7 أكتوبر الماضي، وما تلاها من هجوم إسرائيلي مدمّر، نقطة فاصلة بين تاريخين
فمنذ تجفيف الدعم الغربي لكييف، والقوات الأوكرانية تعاني في كلّ الجبهات. على الرغم من نجاحها اللافت في استعمال مسيّراتها المتنوّعة في قصف الأهداف الحيوية في العمق الروسي (مصافي النفط). وتدمير ثلث الأسطول الروسي في البحر الأسود، قطعة وراء أخرى، بالمسيّرات البحرية. فلطالما اعتبر الروس أنّ نقطة الثقل لأوكرانيا في هذه الحرب، هو الدعم الغربي. وإن كان فشل الهجوم الأوكراني المضادّ الصيف الماضي عاملاً قويّاً لانتشار حالة اليأس في الغرب. إلا أنّ حرب غزة كانت الذريعة المباشرة لتوقّف الكونغرس الأميركي عن إرسال المساعدات إلى أوكرانيا. وعليه، فإنّ توقّف المدد الغربي لسبب أو آخر، يجعل روسيا تتّجه نحو حسم الحرب.
فماذا قدّم بوتين مقابل ذلك لغزّة في محنتها؟
قبل محاولة الإجابة، لا بدّ من تأكيد المعادلة المعزّزة بالوقائع. وهي أنّ إسرائيل تبقى الحليف الأغلى للغرب، من دون منازع. وتأتي في المرتبة الأولى، قبل أوكرانيا وقبل تايوان، وقبل حلفاء تقليديين في المنطقة والعالم. بدليل ما أتاحته واشنطن لإسرائيل من دعم سياسي ودبلوماسي وعسكري مطلق على مدى ستّة أشهر من القتال المرير والتدمير المنهجي لكلّ شيء حيّ في القطاع. .بعد عملية “طوفان الأقصى”. من دون أن يرفّ جفن أيّ مسؤول في الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية. وكأنّه لا يحدث شيء في غزّة.
وكلّ التعاطف الرسمي منحصر بالأسرى الإسرائيليين، وبراحة بال المستوطنين في الشمال والجنوب، واستمرار الحياة الاعتيادية في إسرائيل. ولمّا انتقدت الإدارة الأميركية استعدادات حكومة بنيامين نتنياهو لاقتحام مدينة رفح، على الحدود المصرية، من دون خطط إسرائيلية مُقنعة لنقل أكثر من مليون نازح فلسطيني إلى مكان أكثر أمناً… فلأنّ سقوط مزيد من الضحايا المدنيين الفلسطينيين سيضرّ بسمعة إسرائيل في العالم.
لكن ماذا عن أكثر من 32 ألف شهيد، أكثر من ثلثَيهم من النساء والأطفال، وأكثر من 70 ألف جريح؟
هل هذا العدد كافٍ لإرضاء شهوة القتل والانتقام؟
كان الهمّ الأكبر لدى حكومة إسرائيل المتطرّفة إسباغ وصف داعش على المقاومة الفلسطينية منذ اللحظة الأولى بعد “طوفان الأقصى” في غلاف غزّة
منع “دَعْشنة” المقاومة
كان الهمّ الأكبر لدى حكومة إسرائيل المتطرّفة إسباغ وصف داعش على المقاومة الفلسطينية منذ اللحظة الأولى بعد “طوفان الأقصى” في غلاف غزّة. كما حاول رئيس الحكومة الأسبق أرييل شارون إلصاق تهمة الإرهاب بالفلسطينيين أثناء الانتفاضة الثانية. وذلك عقب هجوم تنظيم القاعدة على البرجين في مدينة نيويورك وعلى مبنى البنتاغون في مقاطعة أرلينغتون عام 2001. ومن الواضح أنّ نتنياهو كان يهدف من دعشنة المقاومة الفلسطينية، جلب الإجماع العالمي إن أمكن على هذا الوصف، الذي تترتّب عليه أمور بالغة الخطورة:
1- نزع شرعية السلطة في غزة بشكل تامّ. وما ينتج منه بالضرورة، من فرض حصار ماليّ واقتصادي وسياسي مطبق. مثل الامتناع عن أيّ تحويل ماليّ. وإرسال أيّ مساعدات إنسانية. وسحب كلّ المنظّمات الدولية من القطاع، لا سيما الأنروا. ووقف التواصل مع المقاومة وواجهتها الحكومية لأيّ سبب من الأسباب.
2- فرض التعتيم الإعلامي الشامل على مجريات الحرب في غزّة. وهذا أخطر ما كان ليحدث لو نجحت دعشنة المقاومة. فمن دون تغطية الفضائيات العربية، لا سيما الجزيرة القطرية والعربية بنسبة أقل، لا أحد كان سيشاهد الفظاعات الإسرائيلية المرتكبة. وكيف كان سيتعاطف الرأي العام الغربي مع غزّة، ويشكّل عامل ضغط على الحكومات لوقف الحرب؟ كانوا يريدون قتل الشعب من دون شغب ولا ضجيج، ثمّ إجباره على الرحيل. التغطية الإعلاميّة المباشرة رفعت المعنويّات كما كشفت الأهداف الحقيقية للحملة الإسرائيلية.
3- استباحة القطاع دون حدود ولا قيود. كما حدث خلال المعارك في العراق وسوريا ضدّ تنظيم داعش في معاقله الحضرية المكتظّة بالسكّان. لا سيّما في الموصل العراقية والرقّة السورية. حيث قُتل آلاف المدنيين، الذين اعتُبروا كالمقاتلين، مهدوري الدم. وهذا ما يمارسه الجيش الإسرائيلي فعلاً في غزّة. فهو يقتل المرأة والطفل قبل أيّ مقاتل يحمل السلاح. لأنّ كلّ مدني في غزّة بنظر الاحتلال، إمّا أنّه ذو قرابة مع المقاومين، أو يؤيّد خيار المقاومة، والأمران سيّان.
بعد عملية “طوفان الأقصى”. من دون أن يرفّ جفن أيّ مسؤول في الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية. وكأنّه لا يحدث شيء في غزّة
أمّا الذي قدّمه بوتين لغزّة التي بفضلها تغيّرت حظوظ روسيا في أوكرانيا بدرجة كبيرة، فيمكن اختصاره بكلمة واحدة: منع واشنطن وحلفائها الأوروبيين من دعشنة المقاومة الفلسطينية. والإضاءة على قضية الاحتلال، في استعادة نسبية للموقف السوفيتي. بل كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصدد تشكيل حلف دولي لقتال المقاومة في فلسطين ردّا على “طوفان الأقصى”. على غرار الحلف الدولي الذي تشكّل عام 2014 ضدّ تنظيم داعش. فلمّا حَبِط عمله، انتقل إلى مشروع آخر، وهو إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا لمواجهة الجيش الروسي.
تغيير العالم
لقد شدّد نتنياهو عقب “طوفان الأقصى”، على ترداد مقولة ذات بُعد استراتيجي. ومفادها أنّ الحرب التي أعلنها على قطاع غزّة، ستغيّر وجه المنطقة لسنوات مقبلة. لكنّ الفشل العسكري في تحقيق الأهداف، ستكون له نتائج عكسية،.إلا أنّ المنطقة لن تتغيّر وحدها. بل توشك أن تتغيّر معها موازين القوى في العالم.
فقوّة الولايات المتحدة قائمة أصلاً على اعتراف الدول الأخرى بمكانتها في النظام الدولي. ليس فقط في مجال التفوّق العسكري مع انحسار تفوّقها الاقتصادي تدريجياً أمام الصين الصاعدة. بل ومكانتها المعنوية بوصفها رائدة الحرّية وحقوق الإنسان والقانون الدولي.
وعندما ينحسر الاعتراف بهذه المكانة الفريدة، وتتكتّل الدول المناهضة لها، صغرت أم كبرت، لتحدّي هيمنة أميركا. بل عندما تنحسر السرديّة الصهيونية في الولايات المتحدة نفسها. كما في الدول الأوروبية الأكثر تصهيناً. فإنّ العالم يكون على حافة التغيّر. وليس بالضرورة أن يكون أكثر عدلاً أو أمناً. بل سيكون حتماً أكثر فوضوية. حيث لم تعد ثمّة قيمة أو فعّالية لكلّ مؤسّسات المجتمع الدولي التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية. مع كلّ الموازين والمراتب والدرجات التي مُنحت لكلّ المنتصرين في الحرب.
إسرائيل تبقى الحليف الأغلى للغرب، من دون منازع. وتأتي في المرتبة الأولى، قبل أوكرانيا وقبل تايوان، وقبل حلفاء تقليديين في المنطقة والعالم
وكانت للولايات المتحدة حصّة الأسد في الموازين الواقعية خارج الأمم المتحدة. لأنّها كانت الأكثر إفادة من تلك الحرب، التي قرّرت دخولها باللحظة المناسبة، كي تحصد الجائزة الكبرى. وإنّ سقوط المنظومة الدولية بعد فشلها الذريع في حماية القانون الدولي من التطبيق المزدوج المعايير، سيكون فاتحة مرحلة جديدة أكثر ضبابية وخطورة ممّا سبق شهوده حتى الآن.
إقرأ أيضاً: الاحتلال هو الخطيئة الأصليّة في فلسطين
كلّ هذا يمكن ربطه بـ”ما بعد طوفان الأقصى” في غزّة. لأنّه لن يكون كما قبله.
لمتابعة الكاتب على X: