الفلسطيني في الخطاب الإسرائيلي منذ تأسيس الكيان، هو إرهابي أو مخرّب، أو سيكون كذلك حتماً. ولو استبدلنا اسم “فتح” أو “الجبهة الشعبية” أو غيرهما من التنظيمات الفلسطينية. في حقبة الستينيات وما تلاها. باسم التنظيمات الإسلامية التي سادت المشهد الفلسطيني منذ الثمانينيات، فلن يتغيّر شيء. السياق نفسه، والهدف عند الاحتلال هو ذاته: تدمير التنظيم الإرهابي الأشهر والقضاء عليه من أجل توفير الأمن لإسرائيل. لا “حماستان” ولا “فتحستان”. هكذا نطق نتنياهو أخيراً، فيما يظنّه اليوم التالي بعد الحرب.
لا يمكن أن يستوعب حقيقة ما يجري في غزة كما في سائر فلسطين المحتلّة. من قتل عشوائي للفلسطينيين من قبل الاحتلال. دون تمييز بين كبير وصغير، رجل أو امرأة، إن استمرّ في لعبة التمييز مثلاً بين نتنياهو وغريمه السياسي في حكومة الحرب نفسها، بنيامين غانتس Benyamen Gantz. فيجعل الأوّل في خانة الصقور والثاني في صفّ الحمائم، فقط لأنّ الثاني يسمع لواشنطن، ويتماهى مع تعليماتها، بخلاف المتعنّت رئيس الحكومة. أو لأنّ نتنياهو يتطلّع بشغف إلى ارتكاب المجزرة الكبرى في رفح، آخر معقل للمقاومة بحسب ما يزعم، فيما غانتس الجنديّ المحترف. الذي قاتل في لبنان في اجتياحَي 1978 و1982، كما كان قائداً للجيش الإسرائيلي في عمليّتين هجوميّتين دمويّتين في غزة، في 2012 و2014. سيكون أكثر التزاماً بالمعايير الإنسانية، لأنّه يعرقل عملية رفح بتواطؤ مع بايدن.
كما أنّ من الخطأ نفسه تبرئة إدارة بايدن ممّا يجري في غزة منذ ستّة أشهر تقريباً. فقط لأنّ الجيش الأميركي يرمي الطعام على الجوعى في القطاع من الجوّ. أو لأنّه سينشئ مرفأ اصطناعياً للإمداد البحري على شاطئ غزة، يحتاج إلى شهرين لإنجازه. في حين أنّ واشنطن هي التي زوّدت حكومة إسرائيل بكلّ ما يلزم من قنابل ثقيلة لتدمير عشرات آلاف المنازل فوق رؤوس ساكنيها.
لا يمكن أن يستوعب حقيقة ما يجري في غزة كما في سائر فلسطين المحتلّة. من قتل عشوائي للفلسطينيين من قبل الاحتلال
مهما تتغيّر الشخصيات الرئيسية على مسرح الأحداث، ومهما تتغيّر السياقات الزمنية والظروف السياسية، فالمشكلة تبقى هي نفسها: احتلّ مستوطنون صهاينة أرض غيرهم قبل 76 عاماً، ويحاولون بشتّى الوسائل إخراجهم منها كلّها إن استطاعوا، ومن معظمها حاليّاً. ولديهم المبرّرات الأيديولوجية الدينية لفعل ذلك، ولديهم حلفاؤهم الأقوياء في الغرب، الذين يتبنّون كامل السردية الصهيونية. وبالمقابل، تُخرج الأرض مقاوميها جيلاً بعد آخر. وكلّهم يوصَمون بالإرهاب، تنظيماً إثر آخر. ولا ترتفع التهمة مؤقّتاً إلا إن اعترف بحقّ الاحتلال في الوجود، وإن ألقى السلاح، وأكمل حياته بهدوء في السجن الكبير.
حكاية “فتح” تتكرّر
إن كان “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول المنصرم، هو السبب المباشر لمأساة غزة الآن. وكان هذا الهجوم غير المسبوق أضاع على اللاجئين الفلسطينيين في القطاع من كلّ أرجاء الضفة الغربية عقب النكبة. إضافة إلى العشائر والأُسر الغزّيّة الأصليّة. فرصة تحسين ظروف الإقامة في المخيّمات، كما في المدن والبلدات والقرى. فإنّ عمليات حركة فتح في فلسطين المحتلّة انطلاقاً من الأردن ولبنان. بدعم من النظام البعثي الجديد في دمشق بقيادة صلاح جديد (توفّي عام 1993)، قبل عامين من نكسة حزيران عام 1967. كانت السبب المباشر لسقوط الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، فضلاً عن هضبة الجولان وصحراء سيناء. هذا ما يؤكّده الباحث السياسي الإسرائيلي آمي غلوسكا Ami Gluska (وُلد عام 1943)، في كتابه الصادر عام 2007. تحت عنوان “الجيش الإسرائيلي وجذور حرب 1967، الحكومة، والقوّات المسلّحة، والسياسة الدفاعية 1963 -1967″.
“The Israeli Military and the Origins of the 1967 War, Government, armed forces and defence policy 1963–1967.”
صيف عام 1966، توصّلت هيئة الأركان العامة لجيش الاحتلال إلى استنتاج مفاده: الطريقة الوحيدة لوقف النشاط الفدائي هي توجيه ضربة عسكرية مدوّية إلى سوريا
أهميّة الكتاب أنّه يكشف دور الجيش الإسرائيلي في دفع الحكومة آنذاك. بقيادة ليفي أشكول Levi Eshkol (توفّي عام 1969). نحو توسيع الردّ العسكري للاحتلال على عمليات الفدائيين الفلسطينيين، وصولاً إلى الحرب الشاملة على مصر وسوريا والأردن دفعة واحدة. ويستدلّ غلوسكا بمجريات النقاش داخل قيادة الأركان الإسرائيلية، وكذلك في اجتماعات الحكومة بين أيّار وحزيران 1967.
وما يهمّ في هذا المجال أنّ جمال عبد الناصر (توفّي عام 1970) لم يكن يريد الحرب مع إسرائيل. وجيشه لم يرجع بعد من اليمن، حيث كان قد تدخّل لمناصرة ثورة 26 أيلول 1962على الإمامة في شمال اليمن. وأنّ منظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسّست عام 1964 بدعم مباشر من مصر. وبقيادة أحمد الشقيري (توفّي عام 1980). كانت خاضعة لتوجيهات القيادة المصرية. أمّا حركة فتح، أو حركة التحرير الوطني الفلسطيني. التي أعلنت نفسها في الأوّل من كانون الثاني 1965. وجناحها العسكري “قوات العاصفة”، فكانا في ذلك الوقت يلقيان الرعاية من النظام السوري، على أن تنطلق عمليّاتهما من لبنان والأردن. وجابهت إسرائيل تلك العمليات بهجمات محدودة ومدروسة حتى لا تصل إلى صدام مباشر مع الدول العربية التي توجد فيها قواعد الفدائيين.
حرب 1967
لكن في صيف عام 1966، توصّلت هيئة الأركان العامة لجيش الاحتلال الإسرائيلي إلى استنتاج مفاده: الطريقة الوحيدة لوقف النشاط الفدائي هي توجيه ضربة عسكرية مدوّية إلى سوريا، التي تبنّت حركة فتح. وانعقد إجماع بين الجنرالات الإسرائيليين على ضرورة فرض “اشتباك جبهويّ” على سوريا من شأنه أن يهزّ النظام الراديكالي في دمشق. وربّما يؤدّي إلى انهياره، وفي كلّ الأحوال، إجباره على التخلّي عن فكرة “النضال الشعبي”. وذلك استناداً إلى ما تحقّق في حملة سيناء عام 1956، التي أوقفت غارات الفدائيين انطلاقاً من قطاع غزة.
مهما تتغيّر السياقات الزمنية والظروف السياسية، فالمشكلة تبقى هي نفسها: احتلّ مستوطنون صهاينة أرض غيرهم قبل 76 عاماً
أمّا رئيس دائرة التدريب آنذاك، أرييل شارون Ariel Sharon (توفّي 2014)، فأعلن أنّ الحلّ الوحيد هو الحرب الشاملة. وأهدافها إحداث تغييرات إقليمية على طول الحدود مع سوريا ولبنان. كما أنّه أيّد تصعيد الوضع مع الأردن من أجل إعادة الحدود إلى الوراء لأنّه “على المدى البعيد لا يمكن الحفاظ على دولة إسرائيل كشريط بعرض خمسة عشر كيلومتراً فقط”. مسؤول قسم التطوير التسليحيّ مونيا ماردور Mardor Monia، حذّر من الربط بين الردّ على حركة فتح وتعديل الحدود مع الأردن. خشية اغتنام مصر الفرصة وتوجيه ضربة جوّية لمفاعل ديمونا النوويّ. ولخّص هذا النقاش قائد الأركان إسحاق رابين Yitzhak Rabin (توفّي 1995)، فركّز على الهدف الملموس، وهو “إبادة حركة فتح”. وبقيّة الحكاية معروفة. سرت تحذيرات من هجوم إسرائيليّ وشيك على سوريا، فأمر عبد الناصر الجيش المصري بالانتشار في سيناء وإغلاق مضيق تيران، فكانت حرب 67 بنتائجها الكارثية. وعلى هذا، يُطرح السؤال وينطلق الحساب.
إقرأ أيضاً: هجرة الفلسطينيّ وعودته كوميديا سوداء
فمن ارتكب الخطيئة الأصليّة (الاحتلال)، ومن رعاها وما يزال، هو المسؤول الحقيقي عن كلّ الأحداث اللاحقة على مدى العقود المتعاقبة وما تخلّلها من مماطلة وخداع تحت اسم “السلام العادل”. وما انطوى فيها أخيراً من قرارات استراتيجية أكبر بكثير من البقعة الجغرافية الضيّقة والمحاصَرة في الوقت عينه. من القادر على فتح الأوراق كلّها، والبدء بالمحاسبة والمراجعة وتحديد المسؤوليّات؟
لمتابعة الكاتب على X: