اتّصالات بين واشنطن ودمشق: المحتمل والممنوع!

مدة القراءة 6 د

أثارت تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد عن اتّصالات تجري مع مسؤولين أميركيين أسئلة بشأن هدف هذا الإعلان وتوقيته على قناة موالية لروسيا. وفيما لاحظ المراقبون ابتعاداً محسوباً للنظام السوري عن خطاب “الممانعة” وسط اتّهامات إيرانية مبطّنة بتورّط أجهزة سورية في تسريب معلومات قادت إلى اغتيال إسرائيل لقادة من الحرس الثوري في سوريا، تأتي تصريحات الأسد لتسلّط الضوء على احتمالات التواصل بين الغرب ونظامه.

 

في آب 2012 فُقد الاتّصال بالصحافي الأميركي أوستن تايس بعد توقيفه عند حاجز تابع لقوات النظام السوري قرب دمشق. وقد نفت وزارة الخارجية السورية حينها احتجاز أيّ مواطن أميركي. لاحقاً جرت جهود خلفيّة، ساهم فيها المدير العام للأمن العام اللبناني السابق اللواء عباس إبراهيم، من دون أن تسفر عن أيّ تقدّم، معلن على الأقلّ. كان الرئيس الأميركي جو بايدن قد اتّهم دمشق عام 2022 باحتجاز تايس ودعا الحكومة السورية إلى المساعدة في إطلاق سراحه.

أما ونحن على مسافة قصيرة من الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. فسيكون إنجازاً انتخابياً يُحسب للمرشّح بايدن التمكّن من إطلاق سراح المواطن الأميركي المفقود في سوريا. وفي ظلّ غياب المعطيات وسرّيّتها بشأن هذه القضية، فإنّ قنوات عدّة تدخّلت، منها اللواء إبراهيم الذي كان نجح قبل ذلك في التوسّط لإطلاق سراح المواطن الأميركي سام غودوين من السجون السورية عام 2019. كما أنّ سلطنة عمان لعبت دوراً ما في نقل الرسائل بشأن هذه القضية بين واشنطن ودمشق.

هل يساعد بشّار بايدن؟

على خلفيّة هذه القضية تأتي تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد قبل أيام بشأن اتصالات تجري مع مسؤولين أميركيين. وعلى الرغم من أنّه لم يربط خبر الاتصالات بملفّ الصحافي تايس. غير أنّ ما صدر عن وزارة الخارجية الأميركية لاحقاً تعليقاً على تصريحات الأسد. يُظهر أنّ الأمر قد لا يتعلّق إلا بقضية المواطن الأميركي المفقود في سوريا.

في آب 2012 فُقد الاتّصال بالصحافي الأميركي أوستن تايس بعد توقيفه عند حاجز تابع لقوات النظام السوري قرب دمشق

أدلى الرئيس السوري بتصريحاته في مقابلة أجراها معه وزير الخارجية الأبخازي، إينال أردزينبا، ونشرت في 21 نيسان الجاري. وأبخازيا هي مقاطعة كانت تابعة لجورجيا وانفصلت بمساعدة روسيا وأعلنت استقلالها عام 1992. ويعتبر البلد الجديد جزءاً من حدائق النفوذ الروسي ولا يحظى إلا باعتراف بضع دول، منها فنزويلا ونيكاراغوا وروسيا طبعاً. ولا يمكن اعتبار هذه المقابلة إلا كونها أيضاً جزءاً من الجهد الإعلامي الروسي للترويج لسياسات موسكو وحلفائها. وبالتالي فإنّ رسائل الأسد من على هذا المنبر تعمل وفق هذا السياق.

دمشق

كشف الأسد في تلك المقابلة عن “لقاءات تجري مع مسؤولين أميركيين بين الحين والآخر”، وعن لقاءات تجري مع الغرب “على الرغم من رأينا السيّئ بهم”. لكن “هذه اللقاءات لا توصلنا إلى أيّ شيء، لكنّ كلّ شيء سيتغيّر”. ولئن قد يُفهم من هذه الإشارة الأخيرة تحوّل ما في الموقف الأميركي والغربي من القضية السورية ونظام دمشق. فإنّ وزارة الخارجية الأميركية وزّعت على بعض وسائل الإعلام في أعقاب هذه التصريحات توضيحاً قالت فيه: “لن نطبّع العلاقات مع نظام الأسد في غياب تقدّم حقيقي نحو حلّ سياسي دائم للصراع الأساسي”.

واشنطن لم تنفِ

لم تنفِ واشنطن بشكل حاسم الأنباء عن تواصلٍ ما مع دمشق. أوضح المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية أنّه “كسياسة عامّة. لا يتمّ التعليق على المناقشات الدبلوماسية للحكومة الأميركية”، مضيفاً: “نعتقد أنّ قرار مجلس الأمن رقم 2254 هو الحلّ الوحيد القابل للتطبيق للنزاع السوري. ونحن نعمل مع حلفائنا وشركائنا لتنفيذ هذا القرار”.

إذا ما أراد الأسد التلميح إلى تواصل جارٍ مع الولايات المتحدة، فذلك أنّ الظروف التي تعرفها المنطقة. لا سيما منذ عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. يمكن أن توحي بتحوّل محتمل في دمشق وفي علاقاتها مع الغرب عامّة، ومع الولايات المتحدة خاصّة.

 كان الرئيس الأميركي جو بايدن قد اتّهم دمشق عام 2022 باحتجاز تايس ودعا الحكومة السورية إلى المساعدة في إطلاق سراحه

أزمة الأسد حلّها في واشنطن

استنتج النظام السوري خلال السنوات الأخيرة أنّ موقفاً غربيّاً تقوده واشنطن ما زال يرفض تطبيع العلاقات الدولية، ومنها العربية، مع دمشق. فعلى الرغم من جهود التقارب التي حصلت بشكل تجريبي من بعض العواصم الأوروبية وبشكل منهجي من عواصم عربية عديدة. وعلى الرغم من قرار جامعة الدول العربية استعادة دمشق لمقعدها في أيار 2023، غير أنّ هذا المسار بقي بطيئاً مرتبكاً متردّداً. تارة بسبب موقف واشنطن وحلفائها، وتارة أخرى بسبب ارتياب المجموعة العربية من علاقات دمشق مع إيران.

غير أنّ تحوّلات لافتة تمّ تسجيلها في الأشهر الأخيرة، لا سيما نأي دمشق بنفسها عن أيّ موقف متماهٍ مع موقف طهران وأذرعها بشأن عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها. بدت دمشق وكأنّها تغرّد خارج السرب الإيراني. حتى إنّ همهمات تصاعدت في طهران تتّهم أجهزة الأمن السورية بالتورّط في تسريب معلومات إلى إسرائيل أدّت إلى نجاحها في تنفيذ عمليات عسكرية استهدفت قادة للحرس الثوري في سوريا. وصولاً إلى قصف القنصلية الإيرانية في دمشق في الأوّل من نيسان الجاري.

إذا كان ابتعاد النظام السوري عن السطوة الإيرانية مطلباً عربياً بامتياز. فإنّ نأي النظام بنفسه عن عملية “طوفان الأقصى” وعن حركة “حماس” هو واجهة جديدة قد يستثمر فيها النظام لمخاطبة واشنطن وحلفائها.

تدرك دمشق حاجة بايدن إلى تسجيل نصر انتخابي من خلال عقد صفقة للإفراج عن الصحافي أوستن تايس. تعرف أيضاً أنّ أيّ محادثات سياسية مع واشنطن مرهونة بمدخل التفاوض بشأن قضية تايس. وهو ما يعيد ازدهار فرص التفاوض والمساومة. وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد كشفت في أيار 2023 أنّ مسؤولين من إدارة بايدن قد التقوا مع مسؤولين سوريين بشأن تايس. وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد كشف حينها أنّ بلاده كانت تعمل مع بلد ثالث يحاول إيجاد طريقة لإعادة أوستن تايس المحتجز في سوريا منذ أكثر من 12 عاماً إلى الولايات المتحدة.

كشف الأسد في تلك المقابلة عن لقاءات تجري مع مسؤولين أميركيين بين الحين والآخر

عُرف لاحقاً أنّ هذا الطرف الثالث هو سلطنة عمان، من دون الكشف عن مراحل هذا التواصل والمستويات التي وصل إليها. وكانت أنباء قد تحدّثت عن لقاءات جرت العام الماضي في مسقط بين مسؤولين سوريين وأميركيين لمناقشة مسألة تايس. ولم يؤكّد وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي صحّة هذه الأنباء، لكنّه أكّد تبادل الرسائل بين دمشق وواشنطن بمساعدة مسقط.

إقرأ أيضاً: الليلة التي أربكت استاتيكو الشّرق الأوسط

على أيّة حال ستشكّل القمّة العربية المقبلة في المنامة في 16 أيار المقبل ميداناً جديداً لتفقّد مؤشّر العلاقات العربية مع دمشق. من خلال ما ستوفّره المناسبة من ردود فعل أميركية دولية بشأن ملفّ سوريا والموقف من نظام دمشق ومستقبل القضية السورية. ذلك أنّ كلّ شيء قابل للتحوّل في منطقة ما زالت تعيش، وستعيش إلى أمد طويل، ارتدادات زلزال “الطوفان” وكوارثه.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…