تأخّر الردّ الإيراني على إسرائيل عقوداً لا أيّاماً. امتلكت طهران كلّ الأسباب الشرعية والمنطقية للردّ المباشر حين نفّذت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عمليات داخل الأراضي الإيرانية. اغتالت مسؤولين وعلماء، واستولت على أرشيف البرنامج النووي وزرعت عبوات ناسفة داخل مفاعلات نووية. امتلكت طهران أسباباً ملحّة حين استباحت إسرائيل مصالح ومواقع إيرانية وقتلت كبار جنرالات ومستشاري الحرس الثوري في سوريا. وفي كلّ مرّة خرجت طهران باجتهادات وفتاوى كان آخرها بعنوان “الصبر الاستراتيجي” لتجنّب أيّ احتكاك مباشر في الشرق الأوسط، تاركة أمر “مشاغلة” العدوّ للفصائل التابعة لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
انشغل العالم أجمع ليلة السبت-الأحد بحدث استثنائي قد تأخّر على الرغم من أنّ من المفترض أن يكون عاديّاً روتينيّاً رتيباً. ليس صحيحاً أنّ استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق كان عملاً فوق العادة لكونه استهدافاً لـ”أراضي إيرانية”. سبق لإسرائيل أن استهدفت الأراضي الإيرانية مباشرة حين نفّذت عمليّاتها داخل إيران. ومع ذلك لم تنتفض طهران غيرةً على السيادة.
سعى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى استغلال “لحظة تاريخية” نادرة من التضامن والدعم الدوليَّين. صوّرت له تلك اللحظة إمكانات التخلّص من “الأعداء” جميعاً في الشرق الأوسط.
راح بعيدا في الردّ على الحزب في لبنان. تقصّدت إسرائيل إلحاق دمار بقرى ومدن جنوب البلد وإنزال خسائر فادحة في صفوف الحزب والضرب في العمق اللبناني مخترقة خطوطاً حمراً وقواعد اشتباك مزعومة.
راح بعيداً في تنفيذ اغتيالات طالت رؤوساً كبرى إيرانية في سوريا حتى صار الوجود الإيراني غير آمن في البلد كلّه حتى في منشأة دبلوماسية إيرانية.
وصل الاستفزاز إلى حدّ تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق، فنجح نتنياهو، “أخيراً”، في استدراج إيران إلى ردّ قد يستدعي حرباً يتمنّاها نتنياهو من شأنها جرّ واشنطن وكلّ المنظومة الغربية لنصرته.
توافقت العواصم على ضخّ مزيد من التهويل والدراما لمواكبة واحتضان التهويل الآتي من إيران
لم يخطئ نتنياهو
لم يكن نتنياهو مخطئاً. استعاد من جديد لحظة الدعم والتضامن الغربيَّين التي كان بدأ يفقدها.
قبل أسابيع خرجت من واشنطن كلمات كانت محرّمة تطلب وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في غزّة.
قبل أيام، خرج ريشي سوناك، رئيس وزراء بريطانيا، يتحدّث عن “حمّام دم” في غزّة وضرورة وقف الحرب. فيما وزير خارجيّته ديفيد كاميرون أعلن أنّ “دعم إسرائيل ليس بلا شروط”.
تبرّمت باريس وبرلين واقتربتا من موقف مدريد القديم المطالِب بوقف المجزرة.
حين أغارت مسيّرات وصواريخ إيران على إسرائيل ندّدت العواصم الغربية وأعلنت دعم إسرائيل، فيما تحرّكت إمكانات عسكرية أميركية بريطانية فرنسية لردّ الهجوم وإحباطه.
كلّ شيء بدا مرسوماً مدبّراً. استنفرت إيران إعلامها المباشر وغير المباشر لتأكيد العزم على الردّ الكبير. قال المرشد علي خامنئي: “ستندم إسرائيل”. حمل ضيوف الفضائيات المطلّون من طهران كلمة سرّ واحدة تمّ تعميمها: “الردّ سيكون مباشراً من إيران وسيكون مدمّراً”.
على خلفيّة هذا “العزم”، زار وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان سلطنة عُمان التي رعت تواصلاً بين طهران واشنطن لتبادل الرسائل. وكشفت “رويترز” أنّ إيران أبلغت الأميركيين أنّ “الردّ لن يكون تصعيدياً”.
هذا في المعلن، لكنّ قنوات خلفيّة أخرى ناقشت على مدى 11 يوماً شكل الردّ وحجمه ومساراته وتوقيته. أبلغت واشنطن حلفاءها الأوروبيين الموقّعين على الاتفاق النووي أن يلعبوا أدواراً محدّدة. تواصلت باريس ولندن وبرلين مع طهران. كان التحدّث مع إيران في الباطن لعقلنة ردّ فعلها، وفي الظاهر المعلن من العواصم الثلاث “تحذيراً لإيران من جرّ الشرق الأوسط إلى صراع شامل”.
خطّة التهويل
توافقت العواصم على ضخّ مزيد من التهويل والدراما لمواكبة واحتضان التهويل الآتي من إيران.
شكّلت فرنسا خليّة أزمة (لماذا!).
تكثّفت اجتماعات في لندن مع الأجهزة والوزارات المعنيّة. خرجت منابر عسكرية في واشنطن تستبعد استخدام السلاح الكيمياوي (ما هذا الهراء؟). وكان سهلاً لأيّ مراقب استغراب جرعات التهويل المفرطة.
استعادت واشنطن زمام الأمور في الشرق الأوسط. بدت راعية لإدارة النزاع بين المتنازعين وبدت أكثر قوّة على فرض هيبتها
كان كلّ شيء مرسوماً حسب الخطّة. أدارت واشنطن “الورشة” وحدها. ضخّت مخابراتها المعلومات بدقّة لافتة (على منوال ما كشفته عن الهجوم على أوكرانيا وهجمات “داعش” ضدّ إيران وروسيا). كشفت عن التوقيت. أُعلن عن “قطع” الرئيس الأميركي جو بايدن عطلته الأسبوعية والعودة إلى البيت الأبيض. وأُعلن اجتماع طارئ لحكومة نتنياهو في ملاذات محصّنة. بثّت واشنطن خبر انطلاق المسيّرات قبل أن تعلن طهران ذلك ويصدر الحرس الثوري بيانه الأوّل.
توقّعت إسرائيل مبكراً أنّ أهداف القصف محصورة في “هضبة” و”صحراء”.
لم يكن الأمر نتيجة نباهة مخابراتية بل هو التزام بتفاهمات واتفاقات مسبقة. استهدفت جلّ المسيّرات والصواريخ هضبة الجولان وصحراء النقب. استغرقت العمليّات من 6 إلى 7 ساعات كانت كافية لتحرّك دفاعات إسرائيل والحلفاء لردّ الهجوم أو معظمه حتى قبل أن يخترق الأجواء الإسرائيلية.
كانت إيران تعرف ذلك تماماً. تحدّثت صيغ إيرانية في الرسائل إلى الأميركيين عن “ردّ لا يستدعي ردّاً مضادّاً”. قال المدافعون عن الردّ الإيراني إنّه، بالمعنى العسكري، ليس مهمّاً أن تتمكّن الدفاعات الإسرائيلية من إسقاط الصواريخ والمسيّرات، فذلك منطقي ومتوقّع. لكنّ المهمّ والرادع في هذا الردّ هو إثبات القدرة العسكرية والتقنيّة على إطلاق كلّ هذه النيران من إيران مباشرة على إسرائيل.
لا أحد يشكّ في القدرات الصاروخية والجوّيّة المسيّرة لإيران.
سبق لإيران أن استخدمت صواريخها لضرب إقليم كردستان عدّة مرّات ضدّ أهداف قيل إنّها للموساد هناك. استخدمتها أيضاً ضدّ قاعدة عين الأسد في العراق حيث وجود عسكري أميركي انتقاماً لمقتل قاسم سليماني في 3 كانون الثاني 2020.
لا أحد يتشكّك في قدرات المسيّرات الإيرانية الصنع التي أظهرت كفاءتها في الحرب في أوكرانيا وتحدّثت تقارير أميركية عن ظهورها لدى الجيش السوداني في حربه ضدّ “قوات الدعم السريع”.
لا أحد يتشكّك في القدرة على إطلاق قوّة نارية من إيران. غير أنّ إطلاقها يحتاج إلى قرار سياسي لطالما رفض المواجهة لكنّه أباحها في الساعات الماضية، وهو ما يؤكّد أنّ الأمر استثناء نادر وقد لا تكون له تبعات مقبلة.
في الظاهر المعلن من العواصم الثلاث تحذيراً لإيران من جرّ الشرق الأوسط إلى صراع شامل
استعادت واشنطن زمام الأمور في الشرق الأوسط. بدت راعية لإدارة النزاع بين المتنازعين. وبدت أكثر قوّة على فرض هيبتها في ترتيب الردّ ورعايتها مع الحلفاء لعمليّات الردّ على الردّ.
بدت أيضاً أكثر نفوذاً على نتنياهو وحكومته لجهة إظهار الحزم في حماية إسرائيل وفي إظهار ارتهان إسرائيل لواشنطن وحلفائها حين تتعرّض لخطر يمكن أن يكون تحدّياً استراتيجياً.
من جهة أخرى باتت في يد نتنياهو حجّة كبرى تؤكّد صحّة رفضه للاتفاق النووي، ذلك أنّه في عُرف إسرائيل ووفق ليلة السبت-الأحد، تشكّل إيران، بصواريخها ومسيّراتها، خطراً استراتيجياً على إسرائيل. فما بالك إذا صارت إيران دولة نووية؟!
في المقلب الآخر بدا أنّ إيران تخوض خصاماً ثنائياً مع إسرائيل. تخوض معركتها وحيدة تكاد تكون معزولة من دون حلفاء، ولا تنسى بالمناسبة شنّ حملة انتقادات قديمة جديدة ضدّ الأردن. أخرج الغرب مخالب جماعية، ولم يصدر عن الصين وروسيا ما بالإمكان الركون إليه.
بات من منطق الأشياء أمام نادي “الاتفاق النووي” أن يفرض على طاولة المفاوضات صفقة تتجاوز النووي لتطال مسيّرات إيران وبرامجها الصاروخية. حتى دول المنطقة “قلقت” ونأت بنفسها عن الحدث متأمّلة أخطار دمار يخترق أجواءها ويهدّد أمنها في صراع “خاصّ” بين إيران وإسرائيل.
إقرأ أيضاً: لماذا نتنياهو عقبة في وجه التسوية؟
ليل السبت-الأحد سقط محرَّمٌ عمره من عمر الجمهورية الإسلامية. كرّست تلك الليلة “عاديّة” انطلاق النار من إيران صوب إسرائيل، وهو ما قد يكرّس “عادة” خطيرة تنقل ناراً من إسرائيل إلى إيران مباشرة. شيء كبير انقلب في توازنات المنطقة ربّما قد يستدعي حاجة إلى حرب كبرى.
لمتابعة الكاتب على X: