يعيش لبنان على خطّ زلزال يشبه الزلزال الذي ضربه بين عامَي 1958 و1975، وهدم الدولة بكامل أركانها وشرّع الكيان على خطر الاندثار. فما يمرّ به الشرق الأوسط يشهد بالتوازي، حركة تحالفات عميقة تعيد تشكيل الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، معطوفةً على نزيف حادّ يصيب هيبة محور إيران العسكرية والسياسية.
هذا ما كشفته المواجهة بين إسرائيل وإيران، المباشرة بحلقاتها الثلاث: قصف المبنى القنصليّ في دمشق وقتل الجنرال زاهدي، والردّ الإيراني على القصف، والردّ الإسرائيلي على الردّ.
لم يكن متوقّعاً مع تتالي النكسات التي تتعرّض لها أدوات إيران في المنطقة، وما يرافقها من ثمن إنساني مرعب، لا سيما في غزة، أن تعرّض إيران نفسها للمهانة إيّاها. فليس خافياً أنّ حماس خسرت معظم قوّتها القتالية مع تدمير 19 من أصل 25 كتيبة تشكّل مجتمعةً هيكلها العسكري. وليس سرّاً أنّ الحزب دفع أثماناً باهظة على مستوى قيادته الميدانية تفوق بأضعاف ما تكبّده خلال حرب تموز 2006. مع ذلك وجدت إيران نفسها مضطرّة إلى الردّ على قتل عدد من قادة الحرس الثوري في سوريا كانوا داخل مبنىً ملحق بالسفارة الإيرانية في دمشق. كشف ردّها عن فائض استعراض ناريّ من دون نتائج تذكر باعتراف المرشد علي خامنئي نفسه. وأكّد الردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني أنّ هوّة التفوّق الفاصلة بين البلدين لا تردمها كلّ خطابات الدنيا.
تحوّل زلزالي… تحالف جديد في المنطقة
بيد أنّ الأهمّ أنّه، في سياق هذ المواجهة، اتّضح أنّ الشرق الأوسط يمرّ بتحوّل زلزالي في مشهده الجيوسياسي. فقد أسقطت دفاعات الأردن عدداً من المقذوفات الإيرانية نحو إسرائيل. وسرّبت أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية أنباء عن تعاون أمنيّ بين عدد من الدول العربية ساهم في إنجاح التصدّي للهجمة الإيرانية. وتحدّث عدد من المسؤولين عن نشوء تحالف جديد يعيد تشكيل ديناميكيات القوّة في المنطقة.
لم يكن متوقّعاً مع تتالي النكسات التي تتعرّض لها أدوات إيران في المنطقة، وما يرافقها من ثمن إنساني مرعب، لا سيما في غزة، أن تعرّض إيران نفسها للمهانة إيّاها
معلوم أنّ الشرق الأوسط يشهد إعادة اصطفاف غير مسبوقة. مع تنامي مسارات تطبيع العلاقات بين العديد من دول مجلس التعاون الخليجي مع إسرائيل، مدفوعة بالمصالح المشتركة في مواجهة النفوذ الإيراني وتعزيز النموّ الاقتصادي. لكنّ تفاعل هذه الكتلة من الدول مع المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، في سياق توتّرات تتّصل بالموضوع الفلسطني بشكل أو بآخر، هو شأن جديد من شؤون الأمن الإقليمي ومرتكزاته.
تشبه هذه التطوّرات ما علمه وذاقه اللبنانيون في السابق. بدأ الانهيار اللبناني بحرب أهلية مصغّرة على خلفية تقرّب رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون من حلف بغداد الذي رأى فيه الزعيم المصري جمال عبد الناصر منصّة لتطويق نفوذ مصر. وكان شمعون رفض الانضمام إلى دولة الوحدة المصرية السورية في العام نفسه. كما رفض قطع العلاقات مع الدول الغربية التي شاركت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. كما الآن، كانت المنطقة تشهد هيجاناً غير مسبوق في سرعة تشكّل التحالفات وصراع الأيديولوجيات والرؤى الاستراتيجية. وكانت الأرضية المذهبية اللبنانية المتفسّخة، قابلة لتسرّب التوتّرات الخارجية إليها.
اندلعت الحرب الأهلية الصغرى وطلب شمعون تدخّل الأميركيين الذين ساندوه حتى نهاية ولايته وابتداء حقبة فؤاد شهاب الذي وصل إلى الرئاسة بالتفاهم الأميركي مع عبد الناصر.
هزيمة 1967… في لبنان
أمّا الزلزال الأكبر، أي هزيمة عبد الناصر في حرب 1967، ففتح لبنان بالكامل على تجربة صعود الكفاح الشعبي المسلّح ممثّلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية. في نهاية عام 1968 بدا واضحاً أنّ الأثمان التي يتحضّر لبنان لدفعها جرّاء الوجود الفلسطيني المسلّح على أراضيه، ستكون باهظة.
قبل رأس السنة بثلاثة أيّام نفّذت مجموعة كوماندوس إسرائيلي إنزالاً في مطار بيروت الدولي وفجّرت 13 طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط، ردّاً على عملية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الناشطة في لبنان، استهدفت طائرة إسرائيلية في مطار أثينا. وما هي إلّا أشهر قليلة حتى وقّع لبنان اتفاق القاهرة في تشرين الثاني 1969، الذي شرّع البلد بالكامل أمام السلاح الفلسطيني. وتتالت الانهيارات، وصولاً إلى الانفجار المركزي عام 1975.
يبدو أنّ الحزب هو من ستقع على عاتقه وراثة الأدوار الموكلة إلى حماس
شيء كثير من هذا الماضي يلوح في أفق لبنان اليوم. شيء من تفاصيل الحقبتين 1958 و1967 يحصل بالتوازي الآن في عام 2024.
فنكسات محور المقاومة البادئة من غزة وصولاً إلى أصفهان، تحمل ملامح عام 1967، على مستوى هزيمة الخطاب وانهيار الوعود وانكشاف ميزان القوى. وحركة التحالفات الجارية تشابه إلى حدّ بعيد زمن حلف بغداد 1958 وصراعات العقائد والرؤى التي دارت معه وحوله.
صحيح أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه دائماً بشكل كامل، إلا أنّ أنماطه تفيد في توقّع ما يمكن أن يحصل.
إقرأ أيضاً: معنى الردّ الإيرانيّ و”اليوم التالي”
وسط كلّ هذا، يبدو أنّ الحزب هو من ستقع على عاتقه وراثة الأدوار الموكلة إلى حماس. فلا الميليشيات العراقية قادرة ولا وجودها يحاذي فلسطين. أمّا الحوثي فلعبة أخرى في سياق آخر، يتّصل بالصراع الإيراني الخليجي أكثر منه بالصراع الإيراني الإسرائيلي. وعلى عاتقه ستقع مواجهة الأحلاف الجديدة الناشئة في المنطقة.
لا شيء يوحي بأنّ البلد قادر على ردّ هذا القضاء، ولا شيء يوحي بأنّ ثمّة من قد يتلطّف به.
لمتابعة الكاتب على X: