في عام 1994 كان جورج بوش الأب رئيساً للولايات المتحدة. وكان جيمس بيكر وزيراً للخارجية. وفي إسرائيل كان بنيامين نتنياهو نائباً لوزير الخارجية. في ذلك الوقت أرسلت سفارة الولايات المتحدة في تل أبيب رسالة إلى الخارجية الأميركية ضمّنتها تصريحاً أدلى به نتنياهو وجّه فيه انتقاداً لاذعاً ومهيناً للسياسة الأميركية. يومها طلب الوزير بيكر من مساعده دانيال كيرتزر التأكّد من صحّة الكلام المنسوب إلى “ابن الزانية” نتنياهو، كما وصفه.
عاد دانيال كيرتزر بعد 24 ساعة حاملاً نتيجة التحقيق. تقول النتيجة إنّ الكلام المنسوب إلى نتنياهو محرّف، لكنّه على الرغم من ذلك سيّئ جداً ومسيء جداً للولايات المتحدة. فالنصّ الرسمي الموثّق لكلامه يقول إنّ الولايات المتحدة تبني سياستها على الأضاليل والأكاذيب. وكان التصريح وراء قرار الوزير بيكر “طرد السفير الإسرائيلي من الولايات المتحدة احتجاجاً واستنكاراً”.
كانت تلك الحادثة أوّل صدام سياسي بين نتنياهو (الذي عاش في الولايات المتحدة وعمل فيها) والإدارة الأميركية. وعلى الرغم من ذلك فقد توالت الصدامات مع إدارات الرؤساء المتعاقبين. حتى إنّه يمكن القول إنّ أحداً منهم لم يفلت من هذا الصدام. ولكن في كلّ مرّة كان نتنياهو الذي يعتمد على قوّة اللوبي الصهيوني الأميركي، يخرج من الصدام سليماً وإن لم يكن منتصراً.
“ابن الزانية”… مجدّداً
في عام 1996 أصبح نتنياهو رئيساً للحكومة الإسرائيلية. وكان بيل كلنتون رئيساً للولايات المتحدة. حاول كلنتون التوسّط بين الجانبين العربي والإسرائيلي لتحقيق تسوية سياسية. يومها وجّه إليه نتنياهو ملاحظات مباشرة قاسية وجارحة حول “كيف يجب التفاوض مع العرب؟”. جنّ جنون كلنتون ورفع صوته أمام مساعديه قائلاً: “من يكون ابن الزانية هذا ليعلّمني كيف أتفاوض أو ماذا عليّ أن أقبل أو أن أرفض؟ من هو رئيس الدولة الكبرى في العالم. أنا أو ابن الزانية (وردّدها ثانية) هذا؟”.
يشكّل الصدام مع الرئيس الحالي جو بايدن آخر مظاهر سلسلة الصدامات التي صنعت تاريخ العلاقات الأميركية – الإسرائيلية
حتى في عهد الرئيس السابق (أو الرئيس العائد؟) دونالد ترامب، الذي أعطى إسرائيل (ونتنياهو شخصياً) أكثر ممّا كانت تحلم به، من نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، إلى ربط التعاون مع بعض الدول العربية وحمايتها من خطر التوسّع الإيراني بالاعتراف بإسرائيل والانفتاح عليها… صُدم بسلوك نتنياهو وبسوء استغلاله الفوري للموافقة العربية على اقتراحاته. فقد بادر نتنياهو إلى القول أمام الجميع: “الآن نستطيع أن نضمّ المزيد من أراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل لضمان سلامتها الاستراتيجية”.
صُدم ترامب بكلام نتنياهو، وكان أشدّ المصدومين صهره جاريد كوشنير. وقد روى في مذكّراته التي نشرها في كتاب عنوانه “التاريخ المقطوع Breaking History” كيف أنّه أمسك بالكرسي الذي كان يجلس عليه بشدّة غضباً وقلقاً من أن تؤدّي عبارة نتنياهو إلى نسف كلّ عملية السلام التي نجح في التوسّط فيها من أجل عمّه الرئيس وسياسته. وقال في مذكّراته: “تمنّيت لو أنّني أستطيع أن أقول لنتنياهو: توقّف عن الكلام”.
بايدن… وغطرسة “بيبي”
يشكّل الصدام مع الرئيس الحالي جو بايدن آخر مظاهر سلسلة الصدامات التي صنعت تاريخ العلاقات الأميركية – الإسرائيلية في عهود نتنياهو الطويلة في رئاسة الحكومة الإسرائيلية. فقد رفض نتنياهو كلّ النصائح التي قدّمها إليه الرئيس بايدن منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023) تاريخ عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس. ولم يأخذ بأيّ من نصائحه أو آرائه. كلّ ما يريده منه هو المزيد من السلاح والمزيد من المال والمزيد من الدعم السياسي المباشر والدعم العسكري غير المباشر (إرسال قطع الأسطول السادس مقابل الشواطئ اللبنانية لتخويف الحزب. ثمّ إرسال قطع من الأسطول السابع إلى باب المندب والبحر الأحمر لتخويف الحوثيين). وكان رفض نتنياهو المتكرّر لعدم القيام بعملية عسكرية في رفح “القشّة التي قصمت ظهر البعير”. حتى إنّ الرئيس الأميركي لم يعد يخفي، وبكلام حادّ، استياءه من غطرسة نتنياهو ومن سوء تطاوله على الإدارة الأميركية.
رفض نتنياهو كلّ النصائح التي قدّمها إليه الرئيس بايدن منذ 7 أكتوبر تاريخ عملية طوفان الأقص
هنا جاء موقف زعيم الأكثرية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي شاك شومر، وهو أوّل يهودي في تاريخ الولايات المتحدة يصل إلى هذا الموقع السياسي الرفيع في الإدارة الأميركية. فقد أدان شومر السلوك السياسي لنتنياهو ودعاه إلى الاستقالة وإجراء انتخابات جديدة في إسرائيل للتخلّص من غطرسته وسوء سياسته.
يشكّل بيان شومر “جرس إنذار” ليس لنتنياهو وحده، بل لفريق عمله أيضاً الذي استدرج إسرائيل إلى مواجهة سياسية مع الولايات المتحدة. في حين تحتاج إسرائيل إلى الدعم العسكري والماليّ والسياسي الأميركي. لكنّ حسابات نتنياهو في مكان آخر. فهو يخوض حرباً سياسية في الداخل مع خصومه الذين يريدون محاكمته بتهمة الفساد والرشوة. ويخوض حرباً سياسية أخرى مع حلفاء إسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة… وهم ضاقوا ذرعاً بما ارتكبته قوّاته العسكرية من جرائم ضدّ الإنسانية في قطاع غزة. ولم يبقَ معه من الحلفاء سوى اليمين الديني المتطرّف. وقد أعدّ هؤلاء “البقرة الحمراء” ليكون ذبحها إيذاناً بتدمير المسجد الأقصى وبناء هيكل يهودي على أنقاضه استعداداً لاستقبال المسيح الحقيقي (المخلّص)، بموجب عقيدتهم الدينية.
إقرأ أيضاً: لماذا نتنياهو عقبة في وجه التسوية؟
هكذا بين انتظار مجيء المسيح المخلّص.. والتخلّص من نتنياهو، يقف الشرق الأوسط على كفّ تقلّبات السياسة الأميركية بين بايدن وترامب. وربّما تكون بوّابة غزة المدخل إلى كلّ هذه العلامات الكبرى.