لن يتوقّف نتنياهو عن مواصلة تدمير غزة فوق رؤوس أهلها إلا بعد أن يتأكّد من أنّ قادة حماس أصبحوا أشلاء. لا يريد نتنياهو أسرى ليكونوا شهوداً على رهانه السياسي الذي أدّى فشله إلى وقوع عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) التي اقتحم فيها عناصر من حماس البلدات الإسرائيلية المجاورة لغزّة وأودوا بحياة 1,500 إسرائيلي.
حاول نتنياهو أن يستثمر الخلاف بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس. كانت السلطة أقوى، فقرّر اعتماد سياسة تقوية حماس ضدّ السلطة، معتقداً أنّه بذلك سوف يحوّل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني – فلسطيني.. و”فخّار يكسّر بعضو”.
أغمض نتنياهو عينيه عن تسلّح حماس لأنّه كان يعتقد أنّ تسلّحها موجّه ضدّ السلطة الفلسطينية. ولكن الذي حدث كان على العكس تماماً. الآن يخشى نتنياهو من أن توفّر نجاة أيّ فرد من قادة حماس الفرصة لتقديم شهادات تدين سياسته ورهانه الفاشلَيْن.
لا يريد نتنياهو أسر أيّ فرد من قادة حماس. ولن يوقف الحرب ما دام هؤلاء القادة أحياء. ولذلك يصرّ على اجتياح رفح حيث يعتقد أنّ هؤلاء القادة اتّخذوا قاعدة تحت الأرض لقيادة عملياتهم العسكرية ضدّ إسرائيل.
يصبّ التدمير المنهجي لمستشفيات غزة في هذه السياسة. فالمخابرات الإسرائيلية كانت تعتقد أنّ قادة حماس يتّخذون منها مقرّات لعمليّاتهم، ومن ملاجئها مأوى لهم. تبيّن أنّ ذلك ليس صحيحاً. وكان الثمن تدميراً كلّيّاً للمستشفيات. وكذلك للتجمّعات السكنيّة التي كان يعتقد أنّ قادة حماس يعملون فيها ومنها. لا يريد نتنياهو قادة حماس أسرى. يريدهم جثثاً. الأسير يشكّل خطراً على سمعته ودليلاً على خطأ رهاناته على حماس ضدّ السلطة بتمكين الأولى من التسلّح وتثبيت أقدامها في غزة لتكون قوّة استنزافيّة واستضعافيّة للسلطة الفلسطينية.
تخوض إسرائيل بقيادة نتنياهو معركتين في وقت واحد
تدمير كل شيء
فشل ذلك كلّه. إلا أنّ الفشل الأكبر الذي يخشاه الآن يتمثّل في الحصول على اعترافات من قادة حماس. ولذلك يريدهم جثثاً لا أسرى. ولو استمرّت الحرب شهوراً عديدة أخرى. ولو أدّى ذلك الى القضاء على الأسرى والمحتجزين. ولذلك يقوم نتنياهو بتدمير إلغائي لكلّ إمكانات الحياة، وحتى لو شمل ذلك الأسرى الإسرائيليين. وهو ما يصرّ على القيام به في رفح التي يعتقد أنّها تحوّلت بعد تدمير شمال ووسط غزة إلى الملاذ الأخير لقادة حماس، وعلى رأسهم يحيى السنوار.
لقد ردّد نتنياهو مراراً أنّ إسرائيل لن توقف الحرب إلا بالقضاء على قادة حماس. فهو يعرف أنّ هؤلاء القادة ليسوا من النوع الذي يستسلم حتى لو خسر عسكرياً. لا يريد أن يراهم أحياء. مهمّته إسكاتهم حتى لا يكونوا شهوداً على فشل رهانه. يفسّر ذلك إصراره على اجتياح رفح على الرغم من المعارضات الدولية التي تحذّر من وقوع كوارث جديدة أشدّ هولاً ممّا وقع حتى الآن في شمال غزة ووسطها.
تخوض إسرائيل بقيادة نتنياهو معركتين في وقت واحد. المعركة الأولى بين نتنياهو وقادة حماس. وهي المعركة التي تقرّر مصير رئيس الحكومة الإسرائيلي ومستقبله السياسي. والمعركة الثانية هي التي تقرّر مصير التسوية السياسية التي يعمل عليها المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية برمزَيْها المتناقضين: الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب. وكلّ منهما يزايد على الآخر في إبداء الدعم لإسرائيل عسكرياً وسياسياً وماليّاً واقتصادياً.
تتداخل المعركتان سياسياً وعسكرياً. وهو التداخل الذي أدّى إلى تدهور العلاقات بين بايدن ونتنياهو. فالأولويّة عند بايدن هي الانطلاق من مأساة غزة لفتح باب التسوية السياسية الشاملة، خاصة أنّ “عمليّة الشمول” كانت بدأت قبل السابع من أكتوبر الماضي وقطعت مراحل متقدّمة. ولكنّ الأولوية عند نتنياهو هي في مكان آخر. ليس بالضرورة لأنّه ضدّ مبادئ مشروع التسوية الأميركي – الدولي، لكن لأنّ اهتمامه في مكان آخر، ويتعلّق بالقضاء على قادة حماس.
تتداخل المعركتان سياسياً وعسكرياً. وهو التداخل الذي أدّى إلى تدهور العلاقات بين بايدن ونتنياهو
تصفية قادة حماس
حتى الآن كانت “القضيّة” في الحرب الإسرائيلية على غزة ذات بُعْد إنساني: عشرات آلاف القتلى والتدمير المنهجي الكلّي، وتحويل مدن القطاع إلى مناطق غير صالحة للحياة. أمّا الآن فإنّ القضية هي تقرير مصير قادة حماس. لا يريد نتنياهو أن يراهم أحياء حتى لو كلّف ذلك تطويل الحرب ومضاعفة عدد الضحايا من المدنيين وعدد قتلى القوات الإسرائيلية التي خسرت في هذه الحرب أكثر ممّا خسرته في أيّ حرب أخرى خاضتها ضدّ الدول العربية.
بالنسبة لنتنياهو تنتهي الحرب على غزة بالقضاء على قادة حماس، وليس بالتسوية معهم، حتى لو كلّف القضاء عليهم تبديد التسوية وتدمير مقوّماتها.
إقرأ أيضاً: صناعة التاريخ بـ”الحرب”.. عندما تتكدّس الجثث
من هنا يشكّل نتنياهو عقبة في وجه أيّ تسوية، سواء للحرب على غزة أو للصراع العربي – الإسرائيلي. ذلك أنّ المحافظة على سمعته تتقدّم عنده على كلّ حلّ أو تسوية.