كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر ملاءمة لقيادة الحركة الإسلامية ليس كمأوىً وحسب، وإنّما للعمل السياسي بكلّ مستوياته ومهامّه… هذا الحديث “غير الموثّق رسمياً” جعل من كلّ زيارة يقوم بها قادة حماس لأيّ دولة، كما لو أنّها بحث عن مكان بديل. وآخر مكان جرى الحديث عنه في هذا السياق هو تركيا، إثر الزيارة الأخيرة التي قام بها السيّد إسماعيل هنيّة واجتماعه مع الرئيس رجب طيب إردوغان وأركان نظامه.
قبل ذلك كان حديث في ذات الاتجاه قد تواتر أثناء زيارة هنيّة لطهران، واجتماعه مع المرشد علي خامنئي. وحين تكون إيران مرشّحة لاستضافة قادة حماس بعد قطر، فذلك يعني ترشيحاً تلقائياً للضاحية الجنوبية بلبنان. التي لا تزال حتى الآن عاصمة التحالف القتالي بين حماس والحزب.
ما لم يصدر تصريح رسمي عن أيّ جهة حول هذا الأمر، وما دامت حماس تنفي كلّ ما يقال حول انتهاء استضافة قطر والبحث عن مكان بديل… فسوف يظلّ الحديث حول هذا الأمر مجرّد تسريبات وتقديرات واحتمالات.
الأمر على هذه الشاكلة لا يستدعي العجلة في تحديد الأماكن البديلة. إذ لا تزال حماس في غزة عسكرياً وسلطوياً. ولا تزال في الضفة وحتى القدس، شعبياً وتنظيمياً. ولا تزال مكاتبها تعمل في الأماكن الموجودة فيها. وليس من المنطقي الحديث عن تغييرات جوهرية ما دامت الحرب لم تضع أوزارها بعد ولم تتبلور خلاصاتها النهائية.
يرتبط بهذا الأمر ما يُبحث من تسويات يجري العمل عليها بقوّة النار والدبلوماسية بشأن الجبهة الشمالية وتموضع الحزب وصواريخه في جنوب لبنان. لم تنضج هذه التسويات ويبدو أنّها ليست في طريقٍ ممهّد كي تنضج قريباً.
حين تكون إيران مرشّحة لاستضافة قادة حماس بعد قطر، فذلك يعني ترشيحاً تلقائياً للضاحية الجنوبية بلبنان
الهويّة والاتجاه.. قبل المكان
غير أنّ الأمر والحالة هذه لن يتوقّف عند حكاية المكان بالنسبة لقيادة حماس، والمعنيّون هنا من هم خارج قطاع غزة. لأنّ من هم في داخله تحت الأرض وفوقها لا مشكلة لديهم تدعوهم إلى التفتيش عن مكان بديل. فقرارهم الأوّل والأخير البقاء حيث هم تحت شعارٍ رفعوه ومارسوه ويثبتون كلّ يوم صدقيّته.. النصر أو الاستشهاد. ونسأل الله أن يكون النصر.
ربّما الذي يبدو أكثر تعقيداً من المكان أنّ الحركة ستدخل مرحلة الخيارات، التي لا تحدّد الأماكن وحسب، وإنّما الهويّة والاتّجاه.
ما حلّ بغزّة من دم ودمار أدّى إلى نشوء حالة تكاد تكون محسومة تجعل من عودة حماس إلى غزة، بالصيغة التي كانت عليها قبل الحرب، أمراً يكاد يكون مستحيلاً. بل إنّ ما ستواجهه حماس ومعها شركاؤها وحلفاؤها وداعموها المحليون والإقليميون، هو أصعب بكثير ممّا واجهته في الحرب.
لقد قاتلت بكفاءة في معركة طويلة لا يُعرف حتى الآن متى يأتي يومها الأخير. وذلك سوف يضع حماس ومن معها أمام معضلة إقليمية ودولية تشترط تقديم ما يلزم لإعادة الحياة إلى القطاع المدمّر بإنهاء حكم حماس وسلاحها. والحديث هنا عن عشرات المليارات من مختلف الجهات والعملات. إضافة إلى أنّ إسرائيل وأميركا ستكونان المتحكّمتين الأساسيّتين في مسألة إدخال الأموال في إطار إعادة الإعمار.
حماس والإخوان المسلمون الذين لا يعدمون نفوذاً في أماكن عديدة لا بدّ أن يقرّروا أخيراً مع وضعهم في الاعتبار حقيقة أنّ إنكار وجود الأزمة ليس حلّاً لها.
“العودة” إلى “منظّمة التحرير”
ما يحسم أمر المكان هي الخلاصات التي ستنتجها الحرب. إلا أنّ ما قبل ذلك وبعده هو حتمية دخول مرحلة الخيارات. فإن كان النصر بمواصفات حماس قد تحقّق فلا أزمة على الإطلاق. فالمكان مضمون على أرض الوطن أصلاً. وإن لم يتحقّق بمواصفاتها فالمكان البديل سوف يفرض شروطه وقيوده. وفي حال الاضطرار إلى ذلك يكون الأمر أقرب إلى الإيواء منه إلى مواصلة النهج القديم في التعامل.
رجال حماس ممّن هم على أرض المعركة العسكرية بقيادة الرجل “الظاهرة” يحيى السنوار، وأولئك الذين هم في مناطق الحلفاء خارج الوطن، يدركون التحدّي ويدركون حجم الفرص الواقعية للنصر الذي ينشدونه. ويدركون كذلك ما يترتّب عليهم فعله بعد أن تضع الحرب أوزارها.
هنالك منطقة متاحة لحلّ أزمة المكان، وهي غير جغرافية بل سياسية. وأعني بها منظمة التحرير التي مهما تآكل جسمها تظلّ صاحبة الميزة الأهمّ، وهي “الشرعية” المعترف بها إقليمياً ودولياً في ما يشبه الإجماع.
المفتاح السحري لدخول “الحركة” بيتها كلمة واحدة لا بدّ أن تقولها: “نلتزم”. وهذه الكلمة التي لم تُقَل على مدى أكثر من ستّ عشرة سنة
المفتاح السحري لدخول حماس بيتها كلمة واحدة لا بدّ أن تقولها: “نلتزم”. وهذه الكلمة التي لم تُقَل على مدى أكثر من ستّ عشرة سنة كانت العامل الأكثر فاعلية في بقاء الانقسام.
“نلتزم” ليست مجرّد كلمة تقال، بل هي في واقع الأمر مفترق طرق حاسم بين الاتجاه القديم والاتجاه الجديد المقترح. فالقديم هو “لا للتسويات ونعم للمقاومة”، والجديد هو “نعم للتسويات ولا للمقاومة”. المقاومة المقصودة هنا هي تلك المسلّحة وجميع الأدبيّات التي تتّصل بها وتسمّى أدبيّات التحريض.
حماس حركة براغماتية قبل أن تكون دينية. فهي تعرف بدقّة ما الذي تنطوي عليه كلمة “نلتزم” بالاتفاقات التي أبرمتها منظمة التحرير مع إسرائيل. ولو كان بإمكانها قولها والتقيّد بشروطها لما تردّدت سابقاً في ذلك. لكنّها لو فعلت الآن تكون قد غيّرت مضمونها واتّجاهها بذات الكيفية التي تغيّر بها غيرها.
لسوء الحظّ أنّ ما كان مطلوباً الالتزام به زمن المفاوضات المرعيّة دوليّاً لم يعد قائماً الآن. فما هو قائم فعلاً هو شبح اتفاق أوسلو المتلاشي، الذي يرفض فيه الخصم حتى مرونة عباس وسلطته ومنظّمته.
إقرأ أيضاً: غزّة والأرمن: المعتدون من قبيلة واحدة.. كذلك الضحايا
الوضع الراهن في غزة والإقليم والأجندات المتعارضة والمتوافقة للقوى المنخرطة في اللعبة عسكرياً وسياسياً تجعل من أزمة المكان التي يجري الحديث بقوّة عنها مسألة ثانوية أمام مسألة الخيارات التي يمكن وصف أحلاها بأنّه مرّ.
حماس والإخوان المسلمون الذين لا يعدمون نفوذاً في أماكن عديدة لا بدّ أن يقرّروا أخيراً مع وضعهم في الاعتبار حقيقة أنّ إنكار وجود الأزمة ليس حلّاً لها.