بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت. لو كان بمقدور لاعب إقليمي لوحده أن يجترح المعجزات لوقف التصعيد على جبهة غزة والحؤول دون انتقاله إلى جبهات أخرى في رفح وجنوب لبنان والبحر الأحمر والتهديدات الإيرانية – الإسرائيلية المتبادلة لفَعل ذلك. مؤشّرات كثيرة تذهب باتجاه ضرورة الردّ على سياسة رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي لا يتعامل بفاعليّة مع المفاوضات التي تتوسّط فيها القاهرة والدوحة… فكيف سيقبل بجهود وساطة تركيا وسط كلّ هذا التوتّر في العلاقات بين البلدين؟ هل يمكن أن يؤجل أردوغان زيارته إلى واشنطن ولماذا؟
قناعة الكثيرين في تركيا وخارجها هي أنّه ليس مصادفة وجود وزير الخارجية المصري سامح شكري في إسطنبول للاجتماع بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان وهو يعدّ نفسه لاستقبال إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لحماس في المكان نفسه أيضاً. هل تمّ لقاء سياسي ثلاثي بين الأطراف لبحث تطوّرات ملفّ غزة أم اكتفت باللقاءات الثنائية؟
هناك أوّلاً جملة من الوقائع والأحداث الواجب التعامل معها وتحليلها:
أوّلاّ: تلويح الدوحة بالانسحاب من ملفّ الوساطة في ملفّ غزة الذي تقوده بالتنسيق مع بعض الأطراف يُفسّر باتّجاهين:
1 – إمّا أنّ جهودها وصلت فعلاً إلى طريق مسدود بسبب تعنّت الأطراف وتمسّكها بمواقفها والتصعيد الإسرائيلي الأخير ضدّها.
2 – وإمّا أنّها تفعل ذلك للضغط على جميع الأطراف لتقديم المزيد من التنازلات باتّجاه فتح الطريق أمام المزيد من التهدئة وفرص الحوار.
ثانياً: مواجهة اللاعب المصري لمعضلة إقناع الإدارة الأميركية بممارسة المزيد من الضغوطات على إسرائيل للتخلّي عن سيناريو رفح. لأنّه سيطيح ببنود اتفاقيات السلام ويُعتبر خطّاً أحمر مصريّاً لن تسمح القاهرة بتجاوزه. على الرغم من أنّ تل أبيب تعوّل على الجهود المصرية أكثر من أيّ حراك إقليمي آخر.
بعد مرور 200 يوم على انفجار الوضع في قطاع غزة ما زالت سيناريوهات التهدئة والتصعيد في سباق مع الوقت
ثالثاً: مواصلة أنقرة بدورها التصعيد ضدّ نتنياهو وحكومته بعدما فشلت جهود توسّطها بين طرفَي النزاع في غزة نتيجة المواقف الإسرائيلية الرافضة لدورها بسبب علاقاتها مع حماس. تحاول تركيا أن تنسّق مع اللاعبين الإقليميين. وأن تستعدّ لزيارة إردوغان للعاصمة الأميركية الأسبوع المقبل. بهدف إقناع إدارة بايدن بالضغط على تل أبيب لتتخلّى عن هدف إشعال فتيل الانفجار على أكثر من جبهة.
رابعاً: تحذيرات إسماعيل هنيّة من مسألة الوقوع في الفخّ الإسرائيلي الأميركي، كما حدث في السابق، ومن الرهان كثيراً على استعداد واشنطن للتخلّي عن تل أبيب حليفها وشريكها الإقليمي.
خامساً: فشل مشروع إسرائيل في الإيقاع بين حماس وأنقرة عبر الحديث عن إخراج الباقي من قيادات الحركة من تركيا أوّلاً… ثمّ الترويج لاستعداد تركيا أن تكون البلد المضيف لقيادات حماس في حال مغادرتهم قطر. التي أُعلن أنّها قرّرت سحب يدها من ملفّ الوساطات ثانياً.
سادساً: تراكم عدد الملفّات الخلافية وتزايد حجم المطالب والشروط التي تتمسّك بها أطراف النزاع. كلّ ذلك يقود إلى قناعة باستحالة نجاح لاعب إقليمي بمفرده في مواجهة كلّ هذه الأعباء وارتداداتها لحلحلة هذا الكمّ من العِقد والمشاكل.
هل يقنع أردوغان حماس بترك السلاح؟
الطاولة السداسية العربية التركية التي وضعت قمّة جدّة. أسسها قبل أشهر لتحاور طرفَي النزاع بالتنسيق مع واشنطن. هي الفرصة الأقوى والأقرب لتسجيل اختراق حقيقي في التعامل مع ملفّ التصعيد على جبهة قطاع غزة.
جهود إردوغان وفريق عمله قبل توجّههم إلى أميركا تنصبّ على تفعيل سيناريو من هذا النوع والوصول إلى نتائج مرضية في مواجهة التصلّب والتعنّت الإسرائيليَّين.. واحتمال إقناع حماس بالتخلّي عن خيار الكفاح المسلّح في إطار تسويات تفتح الطريق أمام هدف الدولة الفلسطينية المستقلّة ضمن حدود عام 1967.
تتطلّع أنقرة إلى سياسة أميركية ضاغطة على إسرائيل. وتتطلّع واشنطن إلى سياسة تركيّة ضاغطة على حماس. هي فرصة حوار يقبل بها العديد من اللاعبين باستثناء إسرائيل. لأنّها قطعت الطريق باكراً على أنقرة وتتمسّك بإحراق أوراق الكثير من اللاعبين في المنطقة.
بدأ موضوع استنزاف إسرائيل سياسياً في غزة يتحوّل تدريجياً إلى قناعة غربية أيضاً
رسائل إردوغان على خطّ حماس – تل أبيب لا تهدف إلى فتح الطريق أمام دور تركي وسيط بقدر ما تسعى إلى تفعيل دور الطاولة السداسية الإقليمية المشتركة التي تقود ملفّات الحوار والوساطات.
لقاء ثلاثي حمساوي تركي مصري؟
ليس مسألةً عابرةً تزامنُ وجود وفد حماس الذي ضمّ إسماعيل هنية وخالد مشعل في إسطنبول مع زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري. ليس سهلاً البناء على سيناريو احتمال عقد لقاء ثلاثي مشترك في إسطنبول طبعاً. لكنّ النقاشات الثنائية تقرّبها وتوحّدها الملفّات المشتركة التي تعني الأطراف الثلاثة.
يذهب الحوار التركي مع العديد من العواصم العربية والغربية باتّجاه بناء هذه الطاولة. ثمّ تسهيل ولادة مبادرة سياسية تسمح بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح. يواكبها تعديل مواقف وسياسات في عمليات مقايضة بضمانات إقليمية بين الأطراف.
هناك معطيات جديدة، من بينها:
– ترحيب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة بأيّ قوة عربية أو إسلامية “إذا كانت مهمّتها إسناد شعبنا الفلسطيني ومساعدته على التحرّر من الاحتلال”.
– وإعلان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من الدوحة قبل أيام أنّ ممثّلي حماس “كرّروا له أنّهم يقبلون بإنشاء دولة فلسطينية ضمن حدود 1967″، وبالتالي ضمنياً وجود دولة إسرائيل “والتخلّي عن الكفاح المسلّح بعد إنشاء الدولة الفلسطينية”.
هما رسالتا حسن نيّة تمنحان واشنطن المزيد من القوّة وهي تضغط على تل أبيب للذهاب نحو طاولة الحوار والتفاوض. حتى لو هاجم وزير الخارجية الإسرائيلي إردوغان تحت معزوفة “عار عليك”، رفضاً لاستقباله وفد حماس في نهاية الأسبوع بإسطنبول.
رسائل إردوغان على خطّ حماس – تل أبيب لا تهدف إلى فتح الطريق أمام دور تركي وسيط بقدر ما تسعى إلى تفعيل دور الطاولة السداسية الإقليمية المشتركة التي تقود ملفّات الحوار والوساطات
ضغط دول المنطقة على واشنطن
في انعكاس لحجم التنسيق التركي المصري والرغبة الثنائية في توحيد الجهود وتفعيل المبادرة العربية الإسلامية المعلنة في جدّة لرسم خارطة طريق الحلحلة في الملفّ الفلسطيني، أتت تحذيرات وزير الخارجية المصري سامح شكري من إسطنبول أيضاً. ومفادها أنّ الحرب في غزة ستؤدّي إلى توسّع الصراع في المنطقة. ودعا المجتمع الدولي إلى الضغط على إسرائيل لتفتح معابرها الستّة مع غزة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى سكّان القطاع.
وطالبها بالعمل الجادّ لمنع “استمرار تهجير الفلسطينيين”، وإلى العمل على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة. وأعلن وزير الخارجية التركي أنّه يجب التحرّك من أجل إيجاد حلول جذرية لاحتواء التوتّر الإقليمي الناجم عن استمرار الحرب في غزة.
ستتعاون تركيا مع القاهرة والرياض والدوحة وعمّان وأبو ظبي بحسب المواقف والرسائل والاتصالات الجارية بين هذه العواصم. والهدف هو محاورة واشنطن لتعديل مواقفها وسياساتها إذا ما كانت تبحث عن حماية مصالح حلفائها وشركائها في المنطقة وعدم تعريضها للخطر لمجرّد إرضاء نتنياهو وحكومته.
لا تريد قيادات حزب العدالة والتنمية التركي أن تغرّد خارج السرب الإقليمي والدولي في التعامل مع موضوع غزة. ولا تريد أن تفرّط بما بنته من علاقات جديدة مع العواصم العربية والغربية
بدأ موضوع استنزاف إسرائيل سياسياً في غزة يتحوّل تدريجياً إلى قناعة غربية أيضاً. لم يكتمل هذا التحوّل في صفوف القيادات الأميركية بعد، لكنّ العديد من العواصم الإقليمية وبينها أنقرة تضغط بهذا الاتجاه. بين أهداف هذا الحراك التركي العربي أيضاً في حواره مع قيادات حماس بشكل مباشر أو غير مباشر، الحؤول دون إعطاء نتنياهو ما يريد. وهو نقل آلة القتل الإسرائيلية إلى الضفة الغربية أو إلى معبر رفح بعد ما فعلته في قطاع غزة. العقبة الكبرى أميركية، لكنّ الصغرى إيرانية. بين فوائد التصعيد الإيراني الأخير ضدّ تل أبيب تسهيل تمرير رزمة المساعدات العسكرية الجديدة لإسرائيل بقيمة 17 مليار دولار كما يبدو.
لكن لماذا تضحّي أنقرة بعلاقاتها مع حماس إرضاءً لإسرائيل وأميركا دون أيّ مقابل سياسي في حلحلة الملفّ الفلسطيني؟ وما الذي يمكن أن تقدّمه أنقرة لحماس أبعد وأهمّ من إعلانها حركة تحرير يقاوم الاحتلال من أجل استقلال فلسطين؟
إقرأ أيضاً: ردّ إيران.. وردّ إسرائيل: لبنان سيكون الضحية؟
لا تريد قيادات حزب العدالة والتنمية التركي أن تغرّد خارج السرب الإقليمي والدولي في التعامل مع موضوع غزة. ولا تريد أن تفرّط بما بنته من علاقات جديدة مع العواصم العربية والغربية. من خلال الوجود أمام اختبار صعب يطيح بما أنجزته من انفتاح وتحوُّل في المواقف والسياسات مع دول المنطقة.
إذا ما كانت الأنباء التي يردّدها البعض حول إرجاء زيارة الرئيس التركي إردوغان لأميركا صحيحة. فهذا يعني أنّ واشنطن ما زالت تعوّل على لعب الورقة الإيرانية – الإسرائيلية في المنطقة حتى النهاية.
لمتابعة الكاتب على X: