ثلاثة عناوين تركّز عليها فرنسا لإعادة تجديد دورها على الساحة اللبنانية. تستعيد باريس نشاطها بعد تيقّنها من أنّ المسار الذي انتهجته منذ عام 2020 لم يصل إلى أيّ نتيجة، بما فيه مبادرتها الأخيرة حول تهدئة الأوضاع في الجنوب ومنع التصعيد، واكتشافها أنّ اللبنانيين قلباً وقالباً مع الأميركيين ومع المقترحات التي تقدّم بها آموس هوكستين. خصوصاً بعدما وصف مسؤولون الورقة الفرنسية التي جرى تقديمها سابقاً بأنّها “ورقة إسرائيلية“...
يتسرّب الكثير من أجواء التوتّر بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. خصوصاً إزاء الملفّ اللبناني. في الكواليس اللبنانية وُجّهت انتقادات دبلوماسية فرنسية للمسؤولين اللبنانيين الذين يرهنون كلّ ملفّاتهم لدى الأميركيين. من بين الملاحظات التي وُجّهت عدم وجوب الارتكاز على مساعي الموفد الأميركي آموس هوكستين، المقتنع بانتظار انتهاء الحرب على غزة للعمل على تثبيت وقف إطلاق النار في لبنان وإنتاج تسوية طويلة الأمد. وهو ما يعتبره الفرنسيون جنوناً ومغامرة لبنانيَّين قد يؤدّيان إلى تدهور كبير. لأنّه في حال عدم إنجاز حلّ سريع فلا أحد يمكن أن يضمن ما سيقدم عليه الإسرائيليون.
أوصل مسؤولون فرنسيون رسائل واضحة للّبنانيين بأن لا يضعوا كلّ آمالهم على آموس هوكستين. لأنّ الانتظار واستمرار المواجهات في الجنوب قد يدفعون ثمنهما غالياً في المرحلة المقبلة.
كلّ هذه الرسائل لم تلقَ آذاناً لبنانيّة صاغية. حتى الحزب أُبلغ بإحداها وفحواها: “كيف للحزب أن ينتظر المبادرة الأميركية التي لا تنصّ على استعادة مزارع شبعا، بينما فرنسا من أكثر الساعين إلى تحرير المزارع؟”. لكنّ عدم التجاوب اللبناني لم يمنع فرنسا من مواصلة تحرّكها. وسط أجواء تفيد بأنّ عدم الاستجابة لها هو جزء من معاقبتها على تخلّيها عن خيار دعم سليمان فرنجية وانتقالها إلى مرحلة البحث عن مرشّح ثالث. أو بسبب اعتبار أنّها أصبحت موالية بشكل كامل للموقف السعودي.
بانتخاب جوزف عون سيبقى موقعه محفوظاً في رئاسة الحكومة. لأنّه مع أيّ مرشّح آخر ستتضاءل جداً حظوظ عودته إلى السراي
عند هذه النقطة، وجدت باريس نفسها مضطرّة إلى العمل وفق سياق مغاير، فبحثت عن إعادة تعزيز دورها ضمن “اللجنة الخماسية”. فإلى جانب العلاقة الجيّدة مع السعودية، كان لزيارة أمير قطر باريس وتوقيع اتفاقيات بأكثر من 10 مليارات يورو أثرهما. إذ حاولت فرنسا تعزيز وضعيّتها اللبنانية انطلاقاً من تحسين العلاقة مع الدوحة. وبعدها أعادت تشغيل محرّكاتها باتجاه واشنطن. وصولاً إلى ترتيب زيارة للمبعوث الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان لأميركا وعقده لقاءات مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن والمبعوث الأميركي آموس هوكستين. في واشنطن سعى لودريان، بحسب المعلومات، إلى إعادة التنسيق مع الأميركيين حول الملفّ اللبناني حدوديّاً ورئاسيّاً. فكلّ ما تريده باريس هو الاحتفاظ لنفسها بدور في لبنان.
ما هي عناوين فرنسا في لبنان؟
من هنا برزت العناوين التي ركّزت عليها فرنسا مجدّداً لإعادة تفعيل محرّكاتها اللبنانية:
1 – ملفّ تطوّرات الجنوب.
2 – ملفّ اللاجئين السوريين الذي أصبح داهماً.
3 – ملفّ الانتخابات الرئاسية.
قبل أسابيع كانت فرنسا تنوي عقد مؤتمر لدعم الجيش اللبناني. لكن تمّت إعاقته أميركيّاً باعتبار أنّ الوقت لم يحن بعد. لذلك ولا بدّ من تأجيله إلى ما بعد الوصول إلى تسوية شاملة حول الوضع في الجنوب اللبناني. بعدها عُقد اجتماع في إيطاليا ضمّ قائد الجيش جوزف عون وقادة جيوش دول أوروبية مختلفة، أبرزهم الفرنسي، الألماني، والإيطالي. وسط معلومات تؤكّد أنّ واشنطن تراهن على أدوار هذه الدول الأوروبية لتوفير مساعدات ماليّة وعسكرية والاحتياجات اللازمة للجيش للانتشار في الجنوب لاحقاً لتكريس الاستقرار.
من الواضح أنّ قبرص ومعاناتها مع تسرّب اللاجئين من لبنان باتّجاهها ضغطتا كثيراً على الاتحاد الأوروبي
ضرورة التنسيق مع أميركا
1- بالنسبة إلى العنوان الأوّل، تشير المصادر الدبلوماسية إلى أنّ باريس أصبحت مقتنعة بضرورة الانسجام والتنسيق مع الأميركيين. فهي غير قادرة على التأثير على المسار الإسرائيلي. واللبنانيون لم يتجاوبوا مع كلّ مبادرتها. عملت فرنسا على تعديل الورقة التي تقدّمت بها إلى لبنان، وقد شملت التعديلات شطب عبارة “انسحاب الحزب من جنوب الليطاني”، واعتماد الصيغة الأميركية في التطبيق المتدرّج للقرار 1701. وقد سلّمت الرئيس ميقاتي نسخة من هذه الورقة. وأوصلت رسائل إلى الحزب تتّصل بمدى موافقته على هذه الاقتراحات. لكنّ الحزب ردّ بأنّه لا يريد التصعيد، لكنّه لن يوقف هجماته قبل وقف الحرب على غزة.
إعادة اللاجئين السوريين
2- أمّا العنوان الثاني الذي وازى ملفّ الجنوب، فهو ملفّ اللاجئين السوريين والحملات التي تُشنّ عليهم. والذي وجدت فيه فرنسا ملفّاً تعبر من خلاله البوّابة اللبنانية. خصوصاً بعد زيارة الرئيس القبرصي بيروت والبحث في كيفية منع تسرّب اللاجئين.
من الواضح أنّ قبرص ومعاناتها مع تسرّب اللاجئين من لبنان باتّجاهها ضغطتا كثيراً على الاتحاد الأوروبي. فهي تطالب بمعالجة هذا الموضوع إمّا بمساعدة لبنان على ترحيلهم إلى سوريا، أو تقديم مساعدات للأجهزة الأمنيّة لتتمكّن من اتّخاذ الإجراءات اللازمة لوقف التهريب. تفيد بعض المعلومات بأنّ ميقاتي بحث مع ماكرون في كيفية العمل على التواصل مع النظام السوري لتوفير عودة أعداد من اللاجئين إلى بعض المناطق الآمنة. فيما يجري تواصل أمنيّ واستخباري فرنسي مع دمشق. علماً أنّ باريس مقتنعة بوجوب تخفيف أعباء اللجوء عن لبنان لأنّ أوروبا هي التي ستكون متضرّرة لاحقاً.
باريس لا يزال لديها أمل أن تكون شريكة في صياغة أيّ تسوية. وحالياً هي مع الخيار الثالث، وتعتبر أنّ قائد الجيش جوزف عون هو الخيار الأفضل
3- أمّا العنوان الثالث، وهو رئاسة الجمهورية، فإنّ باريس لا يزال لديها أمل أن تكون شريكة في صياغة أيّ تسوية. وحالياً هي مع الخيار الثالث،وستعمل لكي يكون قائد الجيش جوزف عون هو الخيار الأفضل، بحسب ما تنقل مصادر فرنسية. وسط مساع لبحث كيفية تمرير هذه التسوية، التي لا تلقى حتى الآن قبولاً لبنانياً. خصوصاً لدى الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحرّ.
وبحسب المعلومات فإنّ الفرنسيين كانوا قد عملوا على ترتيب زيارة قائد الجيش فيما زيارة ميقاتي المتزامنة جاءت بشكل سريع وبناء على طلب من رئيس حكومة تصريف الأعمال، فحدّد له الفرنسيون موعداً على نحو عاجل، واستقبلوه قبل انضمام قائد الجيش إلى الغداء.
إقرأ أيضاً: ميقاتي والجنرال في الإليزيه: على الوعد يا ماكرون
في هذا السياق، هناك من يخلص إلى أنّ ميقاتي الذي أراد الإطلالة من الإليزيه، يجد مصلحة في تزكية خيار قائد الجيش لرئاسة الجمهورية. فهو يعتبر أنّه بانتخاب جوزف عون سيبقى موقعه محفوظاً في رئاسة الحكومة. لأنّه مع أيّ مرشّح آخر ستتضاءل جداً حظوظ عودته إلى السراي. وهذا ما أحدث توتّراً بين ميقاتي وسليمان فرنجية.