انتهت انتخابات نقابة المهندسين. فاز المهندس العوني فادي حنّا بمركز نقيب المهندسين، وفازت لائحته التي يدعمها التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي وجمعية المشاريع. لكنّ المعركة لم تكن على النقابة، بالنسبة لجبران باسيل. المعركة كانت على المسيحيين: من الأكثر تمثيلاً عندهم، جبران أم خصومه؟
فازت لائحة التحالف المكوّن من التيار الوطني الحرّ والثنائي الشيعي وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، في انتخابات نقابة المهندسين. خبر كهذا في الدول الديمقراطية السليمة والمعافاة، نصر للديمقراطية وللعمل النقابي وللمهندسين والمواطنين كافّة. أمّا في لبنان فهو فوز للتيار الوطني الحرّ على خصومه ومنافسيه المسيحيين. ومؤشّر إلى قوّة شعبيّته المسيحية. أو هكذا يريد جبران باسيل رئيس التيار إظهار الأمر وقراءة نتائج الانتخابات.
هذه ليست القراءة “الجبرانيّة” الأولى والفريدة من نوعها. هي قراءة ضمن قراءات ينفرد بها باسيل ويتفرّد. في كلّ استحقاق يتفرّد. لا تعكس تلك القراءة إلّا منهجيةً يحاول رئيس التيار الوطني الحرّ تكريسها وتعميمها على كلّ ثابت ومتحرّك، وفي كلّ انتخابات تجري في الجمهورية اللبنانية. وكأنّ الكرة الأرضيّة والأحداث عليها إنّما تدور حوله وحول تيّاره. فهي إمّا هزيمة له وتراجع في شعبيّته، أو نصر له ودلالة على جماهيره الغفيرة.
لكنّ المشهد مختلفٌ تماماً بحسب أرقام ماكينة “القوات اللبنانية” في نقابة المهندسين. فـ”القوات” حصلت على 65% من أصوات المهندسين المسيحيين الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع، مع 3500 صوت مسيحي تقريباً. مقابل 25% للائحة فادي حنّا (1350 صوتاً تقريباً)، و10% تفرّقت (550 صوتاً تقريباً)، من أصل 5400 مهندس مسيحي شاركوا في الانتخابات. وهم الأكثرية، من أصل 9800 مهندس اقترعوا. أي أنّ 4400 مهندس مسلم انتخبوا فقط.
وبالطبع بات معروفاً أنّ 2716 مهندساً شيعياً شاركوا في الانتخابات، تقدّر ماكينة “القوات” في حديثها لـ”أساس” أنّ أكثر من 90% منهم، أي 2450 صوتاً، صوّتوا للائحة فادي حنّا و”الثنائي الشيعي” فحسموا المعركة لصالح مرشّح جبران باسيل.
المعركة لم تكن على النقابة، بالنسبة لجبران باسيل. المعركة كانت على المسيحيين: من الأكثر تمثيلاً عندهم، جبران أم خصومه
نقيب المهندسين اللبنانيّين
لكنّ نقيب المهندسين في لبنان يفترض أن يكون نقيب المهندسين اللبنانيين كلّهم، مسيحيين ومسلمين ولادينيّين. هو رأس نقابة وطنية تمثّل صرحاً وطنيّاً وعموداً من أعمدة العمل النقابي والعمراني والوطني.
مراعاة التركيبة الطائفية اللبنانية في اختيار أعضائها ورئيسها لا تنفي عنها صفة الوطنية ولا شمولها لبنان كلّ لبنان. صحيح أنّ النائب في لبنان يترشّح عن منطقة معيّنة وطائفة محدّدة، إلا أنّه حين يصل إلى المجلس النيابي يصير نائب الأمّة جمعاء. وكذلك نائب الشعب كلّ الشعب. رئيس الجمهورية كذلك وغيره من الرؤساء، وأيضاً الوزراء.
انتخاب رئيس ماروني للجمهورية اللبنانية ليس نصراً للمسيحيين على المسلمين، ولا لفئة من المسيحيين على فئة مسيحية أخرى. انتخاب رئيس للجمهورية نصرٌ للجمهورية والديمقراطية والوطن والدولة والمسلمين قبل المسيحيين. ما يجري اليوم خير دليل. الفراغ هو مقتلة الجمهورية والوطن.
في تعليقه الأوّل على فوز اللائحة التي يدعمها بالتحالف مع الحزب وحركة أمل وجمعية المشاريع، نحا باسيل نحو “تقريش” هذا الفوز مسيحياً، عبر القول إنّ هذا التيار لا أحد يستطيع تحدّيه أو إزالته. الكلام ضمنيّاً موجّه إلى خصوم التيار المسيحيين (حزب القوات اللبنانية، والمردة، وغيرهما).
الفوز هذا بحسابات جبران فوز للتيّار، لا للمهندسين أو نقابة المهندسين أو العمل النقابي أو للديمقراطية. العمل النقابي ذوى منذ “ترويكا” أطاحت برئيس الاتحاد العمالي العام السابق الياس أبو رزق في العام 1997 (أبطلت النتائج التي فاز بموجبها أبو رزق يومها، بتهمة التزوير، وصدر الحكم في العام 2007 بتبرئة أبو رزق…).
جبران لا يكترث للنقابة. المهمّ عنده هو أن ينال مرشّحه غالبية الأصوات المسيحية، سواء خسر الانتخابات أو فاز فيها. النقابة تفصيل. لا يتوقّف الأمر على انتخابات نقابة المهندسين بل يسحبه جبران باسيل على المعارك كلّها التي يخوضها، والأحداث التي تجري في لبنان والعالم. فوز مرشّح على مرشّح آخر في أيّ انتخابات في الولايات المتحدة الأميركية أو في فرنسا، نصر لفريق مسيحي على فريق مسيحي آخر، وهلمّ جرّاً.
لا يتوقّف الأمر على انتخابات نقابة المهندسين بل يسحبه جبران باسيل على المعارك كلّها التي يخوضها، والأحداث التي تجري في لبنان والعالم
غلبةٌ ترِث غلبةً
معركة نقابية، في بلد قضت الطبقة السياسية فيه على العمل النقابي وقزّمت الاتّحاد العمّالي العامّ وجرّته إلى زواريب الطوائف وأقبية السلطة، كان يُفترَض أن تُخاض لإعادة الزخم والوهج إلى العمل النقابي، لا الإمعان في تدميره وتحويله إلى ميدان لاستدراج الآخر والانتصار عليه.
منذ زمن بعيد لم تعد النقابات قوى تضغط على السلطة لتحصيل حقوق العمّال والمهنيين وتصويب بوصلة العمل السياسي والوطني. النقابات تحوّلت مع الوقت إلى وسيلة بيد السلطة. اليوم، يتمّ تحويلها إلى أداة قياس لإظهار الأحجام الطائفية وإحصاء الجماهير.
أكثر من ذلك صارت وسائل للتغلّب على الآخر-المنافس في ميادين أخرى. مشاريع التغلّب على الآخر، أيّ آخر، في لبنان، ضربات قاضية. الغلبة، أيّ غلبة، تنتهي غالباً بحرب أهليّة. وكلّ حرب تبلور غلبةً جديدةً. حدث هذا في أحداث 1840-1860. تكرّر في الحرب اللبنانية الأهليّة 1975-1990، وبوجوه عدّة وعلى أكثر من ساحة وفي غالبيّة الطوائف.
ما علمناه يسعى باسيل إلى تكراره اليوم، بوسائل مختلفة وجديدة، منها الانتخابات النقابية وغيرها. لبنان في جوهره حوار بين مختلفين، وملتقى ثقافات وطوائف وأفكار. أيّ غلبة فيه أو مشروع غلبة تقضي على جوهر الاجتماع اللبناني. في لبنان لا وجود لطائفة من دون الأخرى.
قوّة المسلمين في هذا الوطن من وجود المسيحيين، والعكس صحيح. وقوّة المسيحيين، والمسلمين أيضاً، في تعدّدهم. في توزّعهم على مذاهب عدّة وأفكار متنوّعة. المميّز في لبنان هو الأقلّ تمثيلاً. هو المختلف.
ألسنا بلاد النوع لا الكمّ؟
ألسنا في بلاد الديمقراطية التوافقية؟
لماذا الإلغاء إذاً؟
لماذا البحث عن أعداد؟
وعلى من تدور الغلبة؟
بين لبنان الميثاق ولبنان باسيل
يرزح جبران باسيل تحت نير فكرة تكاد تطيح بالوطن كلّه: الأكثر تمثيلاً في طائفته هو الأحقّ بالمناصب المسيحية، وباحتكار تمثيل المسيحيين. وهذه بدعة جديدة ما شهدها لبنان إلا منذ عودة رئيس الجمهورية السابق ميشال عون وفي جعبته صهره باسيل، من منفاه الباريسي. وهي بدعة أوصلتنا إلى ما نحن فيه من فراغ ولادولة ولاحكم ولاقرار. أنا الأكثر تمثيلاً وشعبيةً، إذاً أنا أو لا أحد.
كميل شمعون فاز بالرئاسة لأنّه “فتى العروبة الأغرّ”. كان الأكثر قبولاً يومها عند المسلمين. لاحقاً صار “الملك” وصار رمزاً عند الموارنة وصار الرقم واح
لم يكن لبنان يوماً هكذا منذ الاستقلال والميثاق الوطني الشهير، لم يصل يوماً إلى هذا الدرك. لم يقُل زعيم مسيحي واحد على مرّ التاريخ: أنا المسيحي الأقوى في طائفتي، لذا أنا الأولى والأجدر بالرئاسة. كان بيار الجميّل الأقوى مسيحياً طوال عهود، ولم يُنتَخب رئيساً للجمهورية. انتُخب الشيخ بشارة الخوري لأنّه كان أقوى من إميل إدّه عند المسلمين.
كميل شمعون فاز بالرئاسة لأنّه “فتى العروبة الأغرّ”. كان الأكثر قبولاً يومها عند المسلمين. لاحقاً صار “الملك” وصار رمزاً عند الموارنة وصار الرقم واحد، وعلى الرغم من ذلك لم يُنتَخب رئيساً ثانيةً، وهو المرشّح الدائم والأبرز. ينطبق الأمر على الرؤساء فؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية والياس سركيس وأمين الجميّل ورينيه معوّض والياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان. بل إنّ كثراً ممّن سبق ذكرهم انتُخبوا رؤساء لأنّهم مقبولون عند المسلمين ولم يكن لهم تمثيل مسيحي يُذكر.
مغامرات الغلبة
مشكلة بشير الجميّل الرئيسية أنّه لم يكن مقبولاً عند المسلمين. على الأقلّ عند غالبيّتهم. على امتداد عمر الجمهورية كان الماروني الأكثر قبولاً عند المسلمين هو الأوفر حظّاً في الفوز بمنصب الرئيس. والعكس صحيح تماماً، فالمسلم الأكثر قبولاً عند المسيحيين والأكثر انفتاحاً عليهم، كان الأوفر حظّاً في أيّ منصب. لبنان الميثاق والعيش المشترك لا يكون بغير هذا. الأكثر قبولاً عند الآخر والأكثر تفهّماً لهواجسه ومخاوفه ومطالبه، هو الأجدر والأضمن والأنسب. أمّا في لبنان ميشال عون وجبران باسيل، فالأكثر شعبيّةً في طائفته هو الأحقّ والأجدر، شاء الآخر أم أبى. وتلك ليست مشكلة جبران باسيل أو ميشال عون وحدهما، بل هي مشكلة الثنائي الشيعي أيضاً، وقد فرضا هذه المعادلة في أكثر من استحقاق وعند أكثر من منعطف.
في انتخابات نقابة المهندسين، فاز باسيل، بتحالفه مع شريك مسلم واضح هو “الثنائي الشيعي” وبعضاً من أصوات الحزب التقدمي الإشتراكي
المشكلة الحقيقية عند المسيحيين اليوم هي مع الآخر. لا التيار الوطني الحرّ قادر على المضيّ قدماً في تحالفه وتفهّمه للآخر المسلم، وبناء علاقة طبيعية معه قائمة على التفاهم حول مختلف المسائل المصيرية… ولا الطرف الآخر، أي القوات اللبنانية والكتائب وأركان 14 آذار المسيحيون وغيرهم، قادر على بناء علاقة مع الآخر المسلم منذ انفراط عقد 14 آذار.
بين “الفوز” و”النصر”… أين الشريك المسلم؟
أهمّية أيّ مكوّن لبناني هي نجاحه في اجتذاب الآخرين لبناء دولة. الأكثريّات الطائفية مآلها الموت السياسي. هذا ما قاله تاريخ لبنان من عميقه إلى جديده. كلّ مغامرة من مغامرات الغلبة كانت تفضي إلى سقوط مريع.
فاز التيار العوني سياسياً يوم أبرم تفاهمات مع المسلمين، من الحزب وصولاً إلى تيار المستقبل مروراً بحركة أمل والحزب التقدّمي الاشتراكي وغيرهما. انكفأ وخسر يوم اختلف معهم جميعاً، وراح يتّهمهم بعزله، والواقع أنّه عزل نفسه بنفسه.
القوات اللبنانية أيضاً فازت سياسياً يوم انفتحت على الآخر المسلم، وتفاهمت معه على أمور كثيرة. حتى صار سمير جعجع في مرحلة من المراحل ينطق باسم المسلمين لا باسم القوّاتيّين فحسب. وخير دليل على ما سبق أنّ القوات اللبنانية، بالأمس، خسرت معركة انتخابات نقابة المهندسين لأنّها خاضت المعركة ضدّ الآخر، على دماء باسكال سليمان، وقبلها نفّرت هذا “الآخر” وأبعدته بخطاب “ما بيشبهونا”.
إقرأ أيضاً: الحرب الأهليّة… لحظة لم تغادر
في انتخابات نقابة المهندسين، فاز باسيل، بتحالفه مع شريك مسلم واضح هو “الثنائي الشيعي” وبعضاً من أصوات الحزب التقدمي الإشتراكي. في حين “انتصر” سمير جعجع مسيحياً بأغلبية مسيحية تزيد عن 65%. لكنّه انتصار “ممنوع من الصرف”، على طريقة “اللغة”. لأنّه من دون شريك مسلم، لا يمكن لأيّ مسيحي أن ينعم بأيّ انتصار، أو فوز.
لمتابعة الكاتب على X: