انشغلت كلّ دوائر القرار الدولي والإقليمي بما حصل فجر يوم الجمعة الماضي في محيط مدينة أصفهان الإيرانية، ويدور حديث عن هجوم تعرّض له محيط بعض المواقع الاستراتيجية التابعة للقوات العسكرية الإيرانية والصناعات النووية والجوّية. هل هو هجوم إسرائيلي ردّاً على الاعتداء الإسرائيلي على القسم القنصلي للسفارة الإيرانية في دمشق.
رواية إيران الرسميّة
الرواية الإيرانية الرسمية لم تخرج عن السردية العاديّة المستخدمة في أحداث مشابهة. فقد أُعلن أنّ الهجوم قامت به طائرات مسيّرة صغيرة من نوع “كواد كابتر” أُطلقت من الداخل الإيراني. وتمّ إسقاط ثلاث منها وفُجّرت الرابعة في الهواء.
هذه السردية، وإن حاولت نفي وقوع أيّ هجوم إسرائيلي مباشر. فإنّها قدّمت اعترافاً واضحاً بوجود نفوذ استخباري إسرائيلي في الداخل الإيراني وقدرته على تنفيذ عمليات أمنيّة تستهدف مواقع حسّاسة واستراتيجية. إلا أنّها لم تقدّم تفسيراً واضحاً عن الأسباب التي أجبرت القاعدة الهجومية الثامنة للقوات الجوّية للجيش الإيراني على التدخّل أو السبب في أن تكون هدفا لهذا الهجوم الإسرائيلي “الانتقامي”.
رواية المعارضة الإيرانيّة
تؤكّد المعارضة الإيرانية أنّ استهداف القاعدة الجوّية للجيش الإيراني. أدّى إلى تدمير منظومة دفاع جوّي من نوع ” S-300″ بثلاثة صواريخ إسرائيلية بعيدة المدى فوق صوتية أُطلقت من خارج الأراضي الإيرانية. تستدلّ على هذا الأمر بما كشفته القوات الأمنيّة العراقية عن سقوط بقايا صواريخ في منطقة اللطيفية إلى الجنوب من العراق. في حين تردّ إيران بأنّ بقايا هذه الصواريخ تعود لصواريخ إيرانية قامت المقاتلات الأميركية بإسقاطها ليلة الهجوم الإيراني على تل أبيب.
موقف إردوغان المتشكّك في الضربة الإسرائيلية في حال حصولها والتقليل الإيراني من أهميّتها قد يكونان محكومين بمخاوف إيرانية
بغضّ النظر عن صحّة وحقيقة أيّ من السرديّتين، إلّا أنّ الواضح أنّ كلا الطرفين، الإيراني والإسرائيلي. حاولا التقليل من أهميّة هذه العملية إيرانياً، وعدم تبنّيها من قبل الإسرائيليين على الرغم من حاجتهم الشديدة إلى هذا الأمر. في إطار جهود استعادة الردع في مقابل الإيرانيين، وأنّ ضغوطاً أميركية ودولية مورست من أجل الحدّ من التصعيد والوقوف عند هذا الحدّ والعودة إلى مسار التفاوض حول الحلول المطروحة لأزمة الحرب في غزة وآليّات التوصّل إلى وقف لإطلاق النار.
رواية ثالثة بين الروايتين
بين هاتين السرديّتين، هناك سردية أو رواية أخرى جرى السكوت عنها على الرغم من أنّ الجانب الإيراني قد تحدّث عنها ليلة الهجوم الإسرائيلي المبهم، وجاء فيها أنّ سلاح الدفاع الجوّي الإيراني تصدّى لمحاولة اختراق لطائرات وأجسام طائرة استهدفت أحد المواقع العسكرية في محيط مدينة تبريز في شمال غرب إيران بالقرب من الحدود التركية والأذربيجانية. ثمّ تراجع الحديث عنها إلى حدّ التغييب، مقابل تضخيم ما حصل من تصدٍّ في محيط مدينة أصفهان.
اللافت في هذا السياق هو الموقف الصادر عن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في أنقرة، عندما تشكّك في حقيقة حصول هجوم إسرائيلي على مواقع إيرانية، إذ يبدو أنّ من مصلحة إردوغان أن تقف أيّ تداعيات عند هذا المستوى وأن لا تذهب إيران إلى تنفيذ قرار الردّ المقابل. خاصة أنّ المستويات السياسية والعسكرية الإيرانية أكّدت أنّها ستردّ على أيّ دولة أو منطقة تساعد في هذا الاعتداء أو الردّ.
إيران تراقب بحذر وقلق الطموحات التركية في هذه المنطقة والدور الذي تلعبه أذربيجان في تحقيق حلم الرئيس التركي
السكوت على ما حدث في مدينة تبريز، وتهميشه وعدم تسليط الأضواء عليه، لمصلحة ما شهدته أصفهان. يعني بالدرجة الأولى أنّ طهران وقيادتها فضّلتا الذهاب إلى خيار استيعاب ما حصل من أجل معالجة تداعياته الأمنيّة والردعيّة. خاصة إذا صحّت رواية استهداف منظومة S-300 التي من المفترض أن تشكّل مظلّة الحماية الأساسية للمنشآت النووية والاستراتيجية الأخرى. هذا بالإضافة إلى رغبة طهران بوقف أيّ تصعيد من الممكن أن يؤدّي إلى إضعاف ما حقّقته من قوّة ردع جديدة وخطوط حمر أعادت رسمها في الإقليم.
الهلال التركي..
موقف إردوغان المتشكّك في الضربة الإسرائيلية في حال حصولها، والتقليل الإيراني من أهميّتها، قد يكونان محكومين بمخاوف إيرانية:
1- خطورة هذا التصعيد وإمكانية إدخال كلّ منطقة غرب آسيا في حرب مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
2- المخاوف التركية من أن تذهب إيران إلى تنفيذ تهديداتها، وأن تتحوّل أذربيجان إلى مسرح لردّ طهران على هذا الاعتداء. وهو ما يصيب المشروع التركي باتجاه القوقاز الجنوبي ووسط آسيا بانتكاسة كبيرة.
لا شكّ أنّ جهات داخل منظومة القرار الإيراني لديها الرغبة في الانتهاء من ملفّ العلاقة المتوتّرة مع الجارة أذربيجان. والدور السلبي الذي تقوم به في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى بالتنسيق مع تركيا وإسرائيل، وتوجيه ضربة للقواعد والمراكز التابعة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي في أذربيجان (أحد هذه المواقع لا يبعد أكثر من 20 كيلومتراً عن الحدود الإيرانية). وبالتالي التخلّص من هذا الوجود على خاصرتها الشمالية الذي يهدّد مصالحها الجيوقتصادية والجيوسياسية وخطوط التجارة البرّية مع أوروبا الشمالية.
إقرأ أيضاً: ردّ إيران على إسرائيل: تغييرات في “نظام المنطقة”؟
بالإضافة إلى العامل الإسرائيلي ووجوده في أذربيجان. فإنّ إيران تراقب بحذر وقلق الطموحات التركية في هذه المنطقة والدور الذي تلعبه أذربيجان في تحقيق حلم الرئيس التركي في بناء عالم تركي يمتدّ من أنقرة إلى عمق آسيا الوسطى، مع ما يعنيه ذلك من قدرة أنقرة على بناء هلالها الذي يحاصر إيران من الشمال الغربي. وصولاً إلى الشمال الشرقي ويشكّل تهديداً لكلّ مصالحها الجيوقتصادية والاستراتيجيّة.