في اليوم الرابع عشر جاء الردّ، ونفّذت إيران تهديداتها بمعاقبة إسرائيل على الاعتداء الذي استهدف القسم القنصلي في سفارتها في العاصمة السورية دمشق مطلع شهر نيسان الحالي. وما كان فرض عين عليها قامت به من دون الاستعانة بحلفائها. فانطلقت صواريخها المجنّحة (34 صاروخاً) والباليستية (110 صواريخ) إلى جانب سرب كبير من الطائرات المسيّرة (186 مسيّرة) من مدن تقع في العمق الإيراني باتجاه الداخل الإسرائيلي. لتفتح مرحلة جديدة من الصراع المفتوح وغير المباشر بين الطرفين.
كانت دقيقة حسابات إيران والأبعاد القانونية لعملية الردّ على قصف إسرائيل قنصليّتها في سوريا. فهي اعتمدت على ما أقرّه ميثاق الأمم المتحدة في المادّة 51 حول “حقّ الدفاع عن النفس”. وقد عمدت إلى إبلاغ الأمم المتحدة رسمياً عبر ممثّلها الدائم محمد سعيد إيرواني بهذا القرار. خاصة بعد امتناع مجلس الأمن الدولي عن إصدار قرار بإدانة الاعتداء على سفارتها ومعاقبة الفاعل، وبالتالي عملت على سحب أيّ ذرائع لدى كلّ الدول الداعمة لإسرائيل.
لم تقف الحسابات عند استخدام الميثاق الدولي، بل طالت الإجراءات الانتقامية التي قامت بها. فهي عملت أيضاً على سحب الذرائع من القيادة الإسرائيلية، وتحديداً رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، للقيام بردّ على الردّ. وحصرت دائرة الاستهداف بالمواقع والمراكز العسكرية في الشمال والجنوب التي تقول طهران إنّها استُخدمت في الاعتداء على سفارتها في سوريا.
تغييرات في المعادلات السياسيّة
خطوة إيران وتنفيذ الوعد الذي أطلقه المرشد الأعلى بمعاقبة إسرائيل، لم يأتيا من خارج الحسابات السياسية التي تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يحصل من تداعيات في “اليوم التالي” لهذا الردّ. خاصة ما يمكن أن يدخل من تغييرات جوهرية على المعادلات السياسية في علاقة طهران مع المجتمع الدولي أوّلاً، والمحيط الإقليمي ثانياً، وبالأخصّ مع دول الجوار العربي المعنية بتداعيات هذا التطوّر غير المسبوق.
من المفترض أن تشكّل التسوية على المسار الفلسطيني مدخلاً لالتقاط الفرصة التي قدّمتها واشنطن حول اليمن والاعتراف بسلطة الحوثيين
القول إنّ الردّ الإيراني جاء بعد التوصّل إلى تفاهمات غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، ليس من باب اتّهام الطرفين بالتواطؤ أو التعاون على إضعاف سلطة إسرائيل. بل انطلاقا من حرص الطرفين على عدم السماح بتوسيع دائرة الاشتباك إلى خارج حدود قطاع غزة. هكذا يجبر نتنياهو الطرفين على اللعب في الساحة التي يريدها رئيس الوزراء الإسرائيلي. فيشكّلان خشبة خلاص له ليخرج من أزماته الداخلية نتيجة ضعف الأداء في الحرب. بالإضافة إلى ما ينتظره من مساءلات قضائية.
أميركا راضية… وبايدن “رابح”
جاءت حدود الردّ وآليّاته متناسبة مع رغبة الطرفين الإيراني والأميركي بعدم تمدّد الحرب إلى الإقليم. كي لا يكونا مجبرين على دخولها، وبالتالي فتح المنطقة على تداعيات لا يمكن التكهّن بنتائجها وأبعادها. وبما يسمح لإيران من ناحية بتنفيذ تهديدها أو إعادة ترميم قوة الردع التي اهتزّت جرّاء الاستهدافات الإسرائيلية المتوالية لقيادات وعلماء نوويين ومنشآت استراتيجية. ويسمح لواشنطن من ناحية أخرى بأن تعتبر الإجراءات التي قامت بها للتصدّي لهجوم إيران في أجواء سوريا والعراق والأردن، بمنزلة تطبيق للالتزام الذي أعلنه الرئيس جو بايدن بتقديم الحماية الكاملة لإسرائيل. وبالتالي لا تُتّهم واشنطن بالتخلّي عن مبدأ الدفاع عن حليفتها.
رفعت إيران القلقة من ردّة فعل إسرائيل من مستوى تحذيراتها من أيّ عملية انتقامية إسرائيلية. خاصة إذا ما أدّى الردّ الإيراني على الردّ الإسرائيلي إلى توسيع دائرة الحرب والمواجهة، وأجبر واشنطن على الدخول لمساندتها. من هنا جاءت التحذيرات الإيرانية لواشنطن وكلّ الدول المجاورة التي قد تسمح باستخدام أراضيها لتسهيل أنشطة عسكرية أميركية أو إسرائيلية ضدّها، من أنّها لن تكون بعيدة عن الاستهداف الإيراني. وبالتالي هدّدت بالتخلّي عن سياسة الحرص على حسن الجوار من جهة، ولم تقطع قنوات التواصل مع واشنطن من جهة ثانية.
الملفّ النووي فلن يسقط من جدول طموحات إيران في “اليوم التالي”. وبالتالي فهي تسعى إلى التوصّل إلى تسوية تنهي الجدل القائم حوله
ماذا عن “اليوم التالي”؟
إلا أنّ حسابات اليوم التالي لا تقف عند هذا الحدّ، بل من المفترض أن يستتبعها توظيف للمحتوى الذي أنتجته معادلة الردع الإيرانية. وأن ينعكس على مجمل الملفّات العالقة في الإقليم بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. وبالتالي البحث عمّا يمكن أن يوضع على طاولة التفاوض والتسوية في المرحلة المقبلة.
الأزمة في باب المندب والبحرَين العربي والأحمر ما زالت قائمة. وما زالت جماعة الحوثي الحليفة لإيران تمارس أعمالها التي لا تقتصر على استهداف الملاحة البحرية باتجاه إسرائيل… بل تؤثّر على عمل أحد أهمّ المعابر المائية التجارية العالمية. الذي تحوّل إلى ورقة قوّة في يد إيران لفرض شروطها على مستقبل الأمن الإقليمي. خاصة بعد الخطوة التي قامت بها بحريّة حرس الثورة بالاستيلاء على الناقلة المملوكة لشركة إسرائيلية في مياه الخليج عند مدخل مضيق هرمز.
من المفترض أن تكون طهران مدركة للوضع الحرج الذي تمرّ به الإدارة الأميركية الحالية. وبالتالي تبدو الفرصة سانحة أمامها لاستثمار وتوظيف التطوّر الحاصل في الضغط من أجل التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة. والبدء بمسار سياسي فلسطيني برعاية أميركية إيرانية دولية. وبمشاركة حركة حماس والفصائل الأخرى. لتحديد مستقبل السلطة الفلسطينية وعملية إعادة الإعمار.
من المفترض أن تشكّل التسوية على المسار الفلسطيني مدخلاً لالتقاط الفرصة التي قدّمتها واشنطن حول اليمن والاعتراف بسلطة الحوثيين. ورفع جميع أنواع الحصار والعقوبات، مقابل التخلّي عن الأعمال التي يمارسونها في مضيق باب المندب.
لن تتردّد إيران في رفع مستوى مطالبها حول الوجود الأميركي في العراق وسوريا. وذلك في إطار تنفيذ الاستراتيجية التي سبق أن أعلنها المرشد الإيراني
الرسائل الإيرانية مع السوداني..
لن تتردّد إيران في رفع مستوى مطالبها حول الوجود الأميركي في العراق وسوريا. وذلك في إطار تنفيذ الاستراتيجية التي سبق أن أعلنها المرشد الإيراني بعد اغتيال قاسم سليماني في 3/1/2020 في بغداد. وهو الموضوع الذي من المفترض أن يحتلّ صدارة جدول أعمال زيارة رئيس الوزراء العراقي لواشنطن هذه الأيام. ومن المتوقّع أن يحمل محمد شياع السوداني رسائل إيرانية حول العراق وسوريا. وأن يعود برسائل أميركية جوابيّة لطهران. وأن لا تكون هذه الرسائل بعيدة عن تفاهم الطرفين حول مستقبل سوريا والوجود الإيراني في هذا البلد والدور الذي يطمح للقيام به.
أمّا الملفّ النووي فلن يسقط من جدول طموحات إيران في “اليوم التالي”. وبالتالي فهي تسعى إلى التوصّل إلى تسوية تنهي الجدل القائم حوله. من دون أن تكون مجبرة على التراجع عمّا حقّقته من إنجازات في هذا المجال. مقابل أن تلتزم بعدم التطوير أو الذهاب نحو الاستخدام غير المدني للتكنولوجيا النووية. أي أن تعمل واشنطن على المساعدة الجادّة في إنهاء جميع الإشكالات في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ورفع العقوبات الاقتصادية، وعودة إيران لممارسة دورها الطبيعي في الدورة الاقتصادية العالمية.
إقرأ أيضاً: الخبير العسكري خليل الحلو: الحرب الواسعة مازالت ممكنة
أمام جميع هذه التحدّيات والطموحات الإيرانية، هل تكون واشنطن على استعداد لفتح صفحة جديدة من الحوار مع طهران حول هذه الملفّات؟ خاصة أنّ الطرفين والمنطقة معهما قد دخلوا في “اليوم التالي” لردّ إيران الذي لم يعد خاضعاً لضغوط إسرائيل والتهويل الذي يمارسه نتنياهو حول خطر إيران في المستقبل؟