حملة يمينية فرنسية على مليارات الحزب (2/3): شبكة فرنسا..

مدة القراءة 10 د

“الحزب هو الدولة الحقيقية داخل الدولة اللبنانية، الميليشيا التي تحوّلت إلى حزب سياسي، على حساب انهيار الدولة، ويتسلّل إليها من كلّ مسامّها. لديه القدرة على عرقلة تعيين رئيس الجمهورية، ومنع البرلمان من الاجتماع، وشنّ وحده، دون التشاور مع الحكومة، صراعاً ضدّ إسرائيل. وإذا كانت فرنسا تعتبر جناحه العسكري إرهابياً، فهذا ليس هو حال جناحه السياسي الذي فرض نفسه كصانع للملوك في لبنان”.

هذا التقديم هو لمجلّة “لوبوان” الفرنسية الأسبوعية اليمينية وهي خصّصت في عددها الأخير الذي حمل غلافه صورة المرشد الإيراني الأعلى السيّد علي خامنئي والأمين العامّ للحزب حسن نصر الله، ملفّاً على عدّة حلقات مرفقاً بفيديوهات على موقعها عن “مليارات الحزب، الذراع المسلّح لإيران”.

ضمّ الملفّ تحقيقاً كتبه الصحافيان في لوبوان جوزيف سيرسي وإروان سيزنيك عن تداعيات الحزب على الجانب الآخر من العالم: في فرنسا، حول كيف تمكّن الحزب من نشر شبكته في فرنسا وتأسيس عدد قليل من المراكز الدينية الشيعية المعروفة بقربها منه. وفي أميركا الجنوبية، حيث أقام الحزب روابط مع عصابات المخدّرات من أجل تمويل نفسه.

الحزب، الذي يلعب على غموض السلطات التي تعتبر جناحه المسلّح إرهابياً وليس الحركة السياسية، حاضرٌ في فرنسا من دون أيّ قلق. صحيح أنّه يخضع للمراقبة، لكن مع ذلك يتمّ التسامح معه.

هذا التنظيم الذي ترعاه إيران معروف بتصدير تطرّفه وإرهابه. ووقع العديد من الفرنسيين ضحايا لهجماته أو هجمات المنظّمات التابعة له. أمّا الهجوم الأكثر دموية، فكان في 23 تشرين الأول 1983، حين استهدف مبنى دراكار في بيروت، حيث كان يتمركز فوج المظلّات الأجنبي الأوّل: 58 قتيلاً. ثمّ كانت الموجة الإرهابية في عامَي 1985 و1986، التي ضمّت عشرات الهجمات بالقنابل وأسفرت عن مقتل 14 وإصابة ما يقرب من 300 على الأراضي الفرنسية.

هذا التنظيم الذي ترعاه إيران معروف بتصدير تطرّفه وإرهابه ووقع العديد من الفرنسيين ضحايا لهجماته أو هجمات المنظّمات التابعة له

ربّما انتهت الحلقة الدموية، لكنّ الحزب لا يزال أبعد ما يكون عن مغادرة أوروبا. “تنشط هذه الجماعة أينما يوجد اللبنانيون والمسلمون الشيعة في الشتات، وهي منخرطة الآن بشكل أساسي في أنشطة اجتماعية ومدنية ودينية تهدف إلى تعزيز النفوذ المؤيّد للشيعة”، كما تؤكّد كارميت فالينسي، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب المتخصّص في شؤون سوريا ولبنان.

يقول كريستوف عياد، كبير مراسلي صحيفة لوموند، الذي نشر أخيراً كتاب “الجغرافيا السياسية للحزب”، إنّ الحزب يستهدف القارّة الأوروبية بسبب قربها، وتسهيلاتها المصرفية والتجارية، وتسامحها أكثر من الولايات المتحدة.

غسل أموال وتهريب الكوكايين ونيترات الأمونيوم

تتيح أوروبا للحزب قاعدة خلفيّة لعدد معيّن من الأنشطة غير المشروعة، حيث يختلط الإثراء الشخصي بتمويل الحزب. وأظهرت التحقيقات المختلفة التي أجرتها السلطات الفرنسية والأميركية على مدى السنوات العشر الماضية أنّ فرنسا كانت تُستخدم، من بين أمور أخرى، كمنصّة لوجستية ولغسل الأموال.

في عام 2016، وفي إطار عملية الأرز (“الأرز”، شعار لبنان)، قامت وكالة مكافحة المخدّرات الأميركية والمكتب المركزي لقمع الجرائم المالية الخطيرة بتفكيك نظام أموال قذرة. وتمّت إعادة تدوير الأموال الناتجة عن تهريب الكوكايين الدولي الذي يديره الحزب في فرنسا، ولا سيما من خلال شراء السيارات الفاخرة نقداً. شارك في المخطّط معرضان للسيارات، أحدهما في باريس والآخر في ديجون. ولم يتمّ اتّهام الحزب، لكن غالباً ما تمّ ذكره خلال محاكمة المتّهمين الـ 12، التي عُقدت في باريس عام 2018.

كان الأمر الأكثر إثارة للقلق هو إمكان استخدام الحزب فرنسا لإدارة إمداداته من نيترات الأمونيوم. ولا تجذب المعاملات المتعلّقة بهذا المنتج الاهتمام في قوّة زراعية كبرى مثل فرنسا، لأنّه غالباً ما يستخدم كسماد. لكن يمكن استخدامه أيضاً لصنع المتفجّرات.

توفّر الحرب في غزة الفرصة لتعبئة وحشد الشبكات الشيعية اللبنانية

في عام 2015، أُلقي القبض في قبرص على باحث لبناني يعمل في المركز الوطني للبحوث العلمية في مدينة آنسي الفرنسية أشرف على عدد من الطلاب الذين كانوا يعملون في فيلا بجزيرة أفروديت، حيث تمّ العثور على أكثر من 8 أطنان من نيترات الأمونيوم.

هل كانت الاعتقالات رادعة؟ يتشكّك محلّلان إسرائيليان من معهد أبا إيبان للدبلوماسية الدولية في ذلك. وهما نشرا في عام 2021 تقريراً بعنوان “فرنسا ملاذ آمن للأنشطة غير المشروعة للحزب”… الذي يستمرّ في نشر عقيدته، وربّما بعض الاتّجار، عبر شبكة من المراكز الثقافية والدينية.

بين 150 ألفاً و200 ألف شيعيّ.. وكشّافة

هذا هو العدد التقديري للمسلمين الشيعة في فرنسا، الذين ينتمون إلى تيار إسلامي قديم لكنّه أقلّية. إنّ وجودهم أكثر سرّية، فالجمعيّات الرئيسية للإسلام السنّي هي فقط الجهات التي تتحاور تقليدياً مع السلطات العامّة. ومع ذلك، اجتمعت حوالي عشرين جمعية شيعية معاً لمحاولة ممارسة المزيد من النفوذ.

لماذا تسمح باريس بوجود الحزب وجمعيّات تابعة له؟

السبب بسيط. يلعب الحزب على الغموض الفرنسي. فمنذ عام 2013، اعتبرت فرنسا، كما الاتّحاد الأوروبي، الجناح المسلّح للحزب إرهابياً، لكن ليس الحركة السياسية نفسها. ترفض العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة والعديد من الدول العربية، الدخول في هذا التمييز بين الجناح المسلّح والفرع السياسي. في الواقع، إنّه تمييز مصطنع، فالسياسة هي التي تقود الذراع المسلّحة!

يلعب الحزب على الغموض الفرنسي. فمنذ عام 2013، اعتبرت فرنسا، كما الاتّحاد الأوروبي، الجناح المسلّح للحزب إرهابياً

لكنّ فرنسا تتمسّك بتمييزها الدقيق الذي يؤدّي في بعض الأحيان إلى مواقف غريبة. كان حمدي (تمّ تغيير الاسم الأوّل)، خريج صيدلة في فرنسا، ويحمل الجنسية اللبنانية، يسعى إلى الحصول على الجنسية الفرنسية. إنّه شخصية محترمة ومتكاملة، ولذا ظنّ حمدي أنّه سيحقّق كلّ الشروط للحصول على الحالة المدنية الثمينة. لكن في عام 2021، تمّ رفض طلبه. يحاول محاميه إعادة الفحص، لكن ما حصل هو فشل آخر. وفي رسالة مؤرّخة في شباط 2022، أبلغته مديرية شؤون الأجانب في فرنسا، التابعة لوزارة الداخلية، “استمرارها بهذا القرار”. والسبب بحسب الرسالة “علاقتك المهمّة مع الحزب وكذلك […] نشاطك في المجتمع المحلّي”.

حمدي ينفي ذلك ويدّعي أنّه استأنف هذا القرار الذي يعتبره “خطيراً”. يقول متأسّفاً: “بدون التجنّس، لن أتمكّن أبداً من شراء صيدلية”، مشيراً إلى تناقض الوضع. فالإدارة تعتبره جديراً بالثقة بما يكفي لضمان العمل في الصيدلة، وهي مهنة منظّمة للغاية، لكنّها ليست كافية للتجنّس. ويقول في النهاية: “هم يقولون إنه إذا كنت إرهابياً يجب ترحيلي”.

الحزب

(الصورة: علي زريق رئيس جمعية الغدير)

حالة أخرى غامضة هي مركز الغدير في مونتروي، في سين سان دوني. وهو واحد من تلك الجمعيات “الثقافية والدينية” الشيعية التي ثبت قربها من الحزب. ولا يقتصر دوره على الاحتفال بالأعياد الكبرى للإسلام الشيعي مثل عاشوراء. بل يحيي ذكرى الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 والإمام الخميني، الذي يصفه بأنّه “رجل مقدّس”، أو “مثال خالد يُحتذى به”.

لدى المركز علاقات وثيقة مع إيران. وهذا يسمح له بتنظيم زيارات حجّ لأتباعه إلى أرض الملالي، مع اكتشاف الأماكن المقدّسة الشيعية. ومناصرته للحزب معروفة. وهو امتداد منطقي لدعمه لفلسطين والكفاح المسلّح ضدّ إسرائيل، في أعقاب التظاهرة الباريسية عام 2019، حيث تمّ رفع صورة زعيم الحزب حسن نصر الله بين الأعلام الفلسطينية.

تتيح أوروبا للحزب قاعدة خلفيّة لعدد معيّن من الأنشطة غير المشروعة حيث يختلط الإثراء الشخصي بتمويل الحزب

علي زريق “الدّيغوليّ” الشّيعيّ

عبر حسابه على فيسبوك، يعلّق مركز “الغدير” بـ “لايك” على التعليقات التي تحتفي بالحركة الإسلامية الشيعية، مضيفاً عبارة “الله يحمي الحزب”. وفي معهد العالم العربي المرموق في باريس، احتفل المركز بتسعة عشر عاماً من “المقاومة” في جنوب لبنان، التي سمحت للحزب بالسيطرة على المنطقة بعد انسحاب إسرائيل في عام 2000. كان المتحدّثون الذين دعاهم في تناغم كامل. هناك مثلاً الشيخ محمد عباس الذي يشيد بـ”شهداء” الحزب كلّما استطاع، أو الشاعرة اللبنانية فاطمة السحمراني القريبة من الحزب.

يقع مقرّ الجمعية بين مجموعة من المباني وفندق رخيص في مونتروي. ومن غير المستغرب أنّها تدعو إلى إسلام صارم. الحجاب؟ “فائدة”، “يلهم الاحترام” و”يساهم في تحسين الذات”. يطلق الجيران المغاربيون، على المكان لقب “مركز اللبنانيين”.

في الموقع، كان الاستقبال بارداً. وسرعان ما أصبحت نبرة أحد المديرين مشبوهة: “كيف وصلت إلى هنا؟ لماذا؟”. عندما لا يتمّ تقديم الزائر من قبل أحد أعضاء الجمعية، فإنّ عدم الثقة ضروري. التقدير هو العقيدة، أكثر من الدعوة. وهذا لا يمنع جمعية الغدير من تنمية جمهورها بين الشباب. ولذلك يقترح على الشباب الإشراف عليهم من خلال الانضمام إلى الجمعية عن طريق كشّافة “المنتظر”. ومن الواضح أنّ هذه الكشّافة ليست تابعة لاتّحاد الكشّافة الفرنسي. وتطرح نفسها كمنافس للكشّافة الإسلامية الفرنسية ذات التقاليد الصوفية.

على رأس جمعية الغدير علي زريق، المقيم في مونتروي. وهو أصلاً من جنوب لبنان، وله شبكته من التواصل. ويبدو أنّ زريق، عضو حزب الجمهوريين حتى عام 2022، قد غيّر مساره في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، يوم هجوم حماس في إسرائيل. فبعد دعمه لنيكولا ساركوزي وفرانسوا فيون ثمّ فاليري بيكريس، يبثّ رئيس الغدير الآن على موقعX  مواقف La France insoumise وجان لوك ميلينشون ضدّ التدخّل الإسرائيلي في غزة. ومع ذلك، يؤكّد زريق، الذي تمّ الاتصال به، أنّ “قلبه لا يزال ينبض على اليمين”، ويسمّي نفسه “الديغوليّ”.

الحزب الذي يلعب على غموض السلطات التي تعتبر جناحه المسلّح إرهابياً وليس الحركة السياسية حاضرٌ في فرنسا من دون أيّ قلق

توفّر الحرب في غزة الفرصة لتعبئة وحشد الشبكات الشيعية اللبنانية. منتصف شهر تشرين الأول الماضي شاركت الشاعرة فاطمة السحمراني، في معرض بيروت للكتاب، في جناح إيران، وكانت إحدى أمسياتها بعنوان “قوافي الأقصى”، “تكريماً للعملية السامية طوفان الأقصى”. وفي باريس، في 4 نيسان الجاري استضاف علي زريق جمعاً كبيراً من الضيوف اللبنانيين في أحد مطاعم الدائرة السادسة عشرة. وكان سفير جنوب إفريقيا لدى اليونسكو، إيمانويل نكوسيناثي مثيثوا، في دائرة الضوء في ذلك المساء. وكانت الفرصة لإعطاء الكلمة لممثّل الدولة التي اتّهمت إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.

إقرأ أيضاً: حملة فرنسية على مليارات الحزب (1/3): كيف فكّك الدولة وفرض نفسه بديلاً؟

يؤكّد علي زريق أنّ مركز الغدير الذي يديره لم يعد تابعاً للحزب. ويقول: “كان ذلك من قبل”. لكنّ تقرير عام 2021 الصادر عن معهد أبا إيبان يسلّط الضوء على “ارتباطات الغدير القويّة” بالحركة الشيعية المتطرّفة. وهو تقدير يعزّزه الجوّ الذي ينبع من المركز. ولكن لا شيء غير قانوني بداهة. الحزب ليس محظوراً، وهو محاور معترف به في لبنان كما في فرنسا. يوضح زريق: “لقد كنت في وزارة الخارجية الفرنسية Quai d’Orsay قبل بضعة أيام، وأستطيع أن أقول لك إنّهم يتحدّثون مع الحزب”.

في الحلقة الثالثة: بابلو إسكوبار من إيران إلى كولومبيا.

 

لقراءة النص بلغته الأصلية: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…

إغناتيوس: قطر تقود جهود تشكيل حكومة انتقاليّة في سوريا

كشف ديفيد إغناتيوس المحلّل السياسي في صحيفة واشنطن بوست أنّ “قطر، التي كانت لفترة طويلة داعمة سرّية لهيئة تحرير الشام، تقود الجهود العربية لإنشاء حكومة…