هل يصحّ استخدام “الكتاب المقدّس” للدعاية الانتخابية؟
من أجل تمويل حملته الانتخابية نجح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في إنتاج والترويج لعطر جديد (ثمنه مئة دولار) ولحذاء رياضي جديد أيضاً (ثمنه 400 دولار) مزوّد بشريط مذهّب. إلا أنّ أحدث وأغرب ما قام به هو إعداد طبعة جديدة من الكتاب المقدّس بعنوان: “الإنجيل الأميركي، ليبارك الله أميركا”.
ترامب يستند على الإنجيل
يتضمّن هذا الإنجيل نصّ الدستور الأميركي، إضافة إلى مجموعة الأغاني والأهازيج الشعبية التي تتردّد في الريف الأميركي مع شعار “ليبارك الله أميركا”. ومع كلّ نسخة تباع من هذا “الكتاب المقدّس” يُقتطع مبلغ من المال لتمويل الحملة الانتخابية للرئيس ترامب.
يُعتبر الكتاب المقدّس (بعهدَيه القديم والجديد) أكثر الكتب انتشاراً في الولايات المتحدة. وكانت الطبعة الأميركية الأولى منه صدرت في عام 1611. وفي عام 1899 تولّت مؤسّسة خيرية أميركية طبع الإنجيل المقدّس وتوزيعه مجّاناً، حتى إنّه لا تخلو اليوم غرفة في فندق أو مصحّ أو مستشفى أو دار للعجزة من نسخة منه. ويقدّر عدد النسخ المطبوعة منه حتى الآن بحوالي 2.5 مليار نسخة. مع ذلك فإنّ الطبعة الجديدة “الترامبيّة” من الإنجيل لها مواصفات مختلفة.. والإقبال على شرائها واسع النطاق.
لا تقتصر الطبعة الجديدة على ما أوحى به الله لموسى وعيسى عليهما السلام. ولكنّها تتضمّن إلى جانب ذلك ما أوحى به ترامب إلى الرأي العامّ الأميركي تحت شعاره السياسي الديني الجديد: “نعمل من أجل أن تصلّي أميركا ثانية”، وذلك بعدما كان شعاره السابق يقول: “لنعمل من أجل أميركا قويّة ثانية”.
يُعتبر الكتاب المقدّس (بعهدَيه القديم والجديد) أكثر الكتب انتشاراً في الولايات المتحدة. وكانت الطبعة الأميركية الأولى منه صدرت في عام 1611
يبدو أنّه على الرغم ممّا يتمتّع به الكتاب المقدّس من احترام وتقديس لدى المؤمنين الأميركيين، فإنّ مبادرة ترامب لاقت نجاحاً كبيراً. يتمثّل ذلك في ارتفاع عائدات مبيعات الكتب الدينية. وتقول هيئة اتّحاد الناشرين الأميركيين إنّ عائدات المطبوعات الدينية ارتفعت بنسبة سبعة في المئة خلال الأشهر الأولى من عام 2023. وتقول أيضاً إنّ هذه العائدات وصلت إلى 674 مليون دولار. وبموجب اتفاقيات النشر والتوزيع فإنّ جزءاً من هذه العائدات سوف يخصّص لتمويل الحملة الانتخابية للرئيس ترامب.
لا توجد حقوق لمن تحمل الأناجيل أسماءهم من حواريّي المسيح عليه السلام. الحقوق اليوم هي للناشر، خاصة أنّه أضاف إلى النصّ المقدّس نصوصاً جديدة ليضفي عليها طابعاً من القداسة السياسية؟!
الأميركي يميل إلى التديّن
يُعرف عن الإنسان الأميركي أنّه أشدّ ميلاً للتديّن من الإنسان الأوروبي. الأوّل يتماهى مع الدين، والثاني فكَّ ارتباطه بالدين.
عندما يتمّ انتخاب رئيس لأيّ دولة أوروبية فإنّه يؤدّي قسَم الولاء على الدستور. أمّا الرئيس الأميركي المنتخب فيُقسم على الكتاب المقدّس، وعلى يد أحد القساوسة. الرئيس ترامب يعرف مدى تأثّر الرأي العامّ الأميركي بالدين، ولذلك عمل على إعداد الإنجيل الجديد الذي يحمل الى جانب النصّ الديني، نصوصاً “ترامبيّة” تعكس شعاراته الانتخابية التي يريد أن يضفي عليها مسحة من القداسة.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الرئيس ترامب ينتمي إلى الكنيسة الإنجيلية الأميركية. فيما ينتمي منافسه الرئيس جو بايدن إلى الكنيسة الكاثوليكية. والعلاقة بين الكنيستين هي علاقة تنافسية على اكتساب المؤمنين داخل الولايات المتحدة وخارجها. وتأخذ هذه المنافسة أبعادها أوّلاً من خلال هجرة الأميركيين الجنوبيين (الكاثوليك) عبر المكسيك الكاثوليكية إلى الولايات المتحدة. وثانياً من خلال نجاح الكنائس الإنجيلية الأميركية في اكتساب قلوب الملايين من شعوب دول أميركا الجنوبية التي تعتبر الخزّان الكاثوليكي الأوّل في العالم. فالهجرة الكاثوليكية إلى الولايات المتحدة والنجاح الإنجيليّ في دول أميركا الجنوبية أدّيا إلى تغيير معادلات التوازن الديمغرافي الديني في الولايات المتحدة وفي دول أميركا اللاتينية.
لم يسبق في التاريخ أن نُشر كتاب مقدّس (القرآن الكريم أو الإنجيل أو التوراة) مع أيّ مادّة أخرى. فكيف إذا كانت المادّة الإضافية تتعلّق بالترويج السياسي
تنعكس هذه التحوّلات على طبيعة المعركة الرئاسية بين ترامب وبايدن. الأوّل يعتمد على اللوبي الإنجيلي. إلا أنّ خلافه مع نائبه السابق بنس الذي يُعتبر من قادة الحركة المسيحية الصهيونية (وهذا اسمها الرسمي)، أفقده تعاطف فريق من هذه الحركة. وهو يحاول التعويض من خلال الترويج للطبعة الجديدة من الإنجيل الذي يحمل اسم “ليبارك الله أميركا”.
يتقبّل بعض الإنجيليين في الولايات المتحدة الإضافات الدعائية إلى الإنجيل بروح تسامحيّة وانفتاحيّة. فيما يعتبرها الكاثوليك سوء استغلال للكتاب المقدّس. وذلك بسبب القلق من احتمال الاختلاف بين ما هو لله وما هو لترامب!!
لم يسبق في التاريخ أن نُشر كتاب مقدّس (القرآن الكريم أو الإنجيل أو التوراة) مع أيّ مادّة أخرى. فكيف إذا كانت المادّة الإضافية تتعلّق بالترويج السياسي، وتحديداً بالترويج لشخصية من نوع الرئيس ترامب الذي يحاكَم في الوقت الحاضر بتهمة رشوة بائعة هوى محترفة لإخفاء علاقاته الحميمة السابقة معها؟
إقرأ أيضاً: صناعة التاريخ بـ”الحرب”.. عندما تتكدّس الجثث
من هنا فإنّه بقدر ما يحاول ترامب استغلال الطبعة الجديدة للكتاب المقدّس للترويج لحملته الانتخابية، فإنّ منافسه الرئيس جو بايدن يحاول استغلال هذه الطبعة للطعن في أخلاقيات خصمه ومنافسه.
لا بدّ أن يربح أحدهما معركة الرئاسة. ولكن ليس على حساب قداسة الإنجيل!!