في عدد خصّصته للحرب الإسرائيلية على غزة بعنوان “إسرائيل وحيدة”، ووضعت فيه صورةً لعلم إسرائيلي يتعرّض لرياح شديدة على غلافها، وصفت مجلّة إيكونوميست البريطانية الوضع في إسرائيل بعد 7 أشهر على هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) بأنّه “قاتم.. فإسرائيل تشهد اليوم أحلك مسار لوجودها منذ 75 عاماً. وحطّمت الحرب على غزة العديد من أوهامها وزعزعت كلّ أعمدة أمنها”.
إسرائيل ضعيفة للغاية، في رأي المجلّة البريطانية، وعلى أميركا مساعدتها في إيجاد استراتيجية فضلى. إذ لا يزال هناك طريق ضيّق للخروج من جحيم غزة. وتحذّر في افتتاحيّتها من أنّ “فشل محادثات وقف إطلاق النار قد يترك إسرائيل حبيسة أحلك مسار لوجودها منذ 75 عاماً. ويتميّز هذا المسار باحتلال لا نهاية له وسياسات يمينية متشدّدة وعزلة. واليوم ينكر العديد من الإسرائيليين هذه الحقيقة، لكنّ الحساب السياسي سيأتي في نهاية المطاف، ولن يحدّد مصير الفلسطينيين فحسب، بل وسيحدّد قدرة إسرائيل على الازدهار خلال السنوات الـ 75 المقبلة”.
قد تكون إسرائيل قد نجحت اليوم في تدمير نصف قوات حماس التي ارتكبت فظائع تهدّد فكرة إسرائيل كأرض آمنة لليهود، لكنّ مهمّتها، بحسب إيكونوميست، فشلت في نقاط مهمّة:
– أوّلاً، في غزة، حيث أدّى إحجامها عن تقديم المساعدات أو توزيعها إلى كارثة إنسانية كان يمكن تجنّبها، وحيث تجاوزت الخسائر المدنية الناجمة عن الحرب 20 ألف قتيل، وهي في تزايد مستمرّ. رفضت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتشدّدة خططاً لتكليف السلطة الفلسطينية أو قوّة دولية بإدارة قطاع غزة بعد الحرب. والنتيجة الأرجح هي إعادة الاحتلال العسكري.
نتنياهو يتحدّث عن غزو رفح، آخر معقل لحماس في حين يتخيّل اليمين المتشدّد إعادة التوطين في غزة
– ثانياً، فشلت إسرائيل أيضاً في الداخل. المشاكل أعمق من قيادة نتنياهو الرهيبة. لقد أدّت حركة المستوطنين المتنامية والسكّان الأرثوذكس المتطرّفين إلى إمالة السياسة نحو اليمين واستقطاب المجتمع. قبل 7 أكتوبر (تشرين الأول)، كان الاستقطاب واضحاً نحو النضال من أجل استقلال العدالة. لقد زادت الحرب من المخاطر، وعلى الرغم من استبعاد الأحزاب اليمينية المتشدّدة في الائتلاف من حكومة الحرب، إلا أنّها عرّضت المصالح الوطنية لإسرائيل للخطر من خلال استخدام الخطاب التحريضي، وإذكاء عنف المستوطنين ومحاولة تخريب المساعدات والتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب. إنّ المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيلية قادرة وواقعية، لكنها لم تعد تتولى المسؤولية بشكلٍ كامل.
– ثالثاً، إنّ فشل إسرائيل الأخير هو الدبلوماسية الخرقاء. كان الغضب من الحرب أمراً لا مفرّ منه، وخاصة في الجنوب العالمي، لكنّ أداء إسرائيل كان سيّئاً في مواجهتها. إنّ “الحرب القانونية”، بما في ذلك ادّعاءات الإبادة الجماعية الزائفة، تلحق الضرر بسمعتها. يتعاطف الشباب الأميركيون معها بشكل أقلّ من آبائهم. وقد حاول الرئيس جو بايدن كبح جماح حكومة نتنياهو من خلال احتضانها علناً، لكنّه فشل. وفي 14 آذار، شجب تشاك شومر، أكبر حليف لإسرائيل في مجلس الشيوخ، الفظائع التي ارتكبتها حماس، لكنّه قال إنّ الزعيم الإسرائيلي “ضائع”.
حاولت أميركا إرغام إسرائيل على الخروج من غزة بينما لا يزال بوسع حماس إعادة تنظيم صفوفها، أو الحدّ من الدعم العسكري
هذه الصورة القاتمة لا يتمّ الاعتراف بها دائماً في القدس أو تل أبيب، أضافت إيكونوميست، فنتنياهو يتحدّث عن غزو رفح، آخر معقل لحماس، في حين يتخيّل اليمين المتشدّد إعادة التوطين في غزة. والعديد من الإسرائيليين العاديّين لديهم أوهام أيضاً. وهم يعتقدون أنّ التهديدات الفريدة لإسرائيل تبرّر قسوتها، وأنّ الحرب ساعدت في استعادة الردع. ويرى الكثيرون أنّه لا يوجد شريك للسلام، فالسلطة الفلسطينية فاسدة، وتشير استطلاعات الرأي إلى أنّ 93 في المئة من الفلسطينيين ينكرون حتى وقوع الفظائع التي ارتكبتها حماس. ويخلصون إلى أنّ الاحتلال هو الخيار الأقلّ سوءاً. يفضّل الإسرائيليون أن يتمتّعوا بشعبية في الخارج، لكنّ الإدانة ومعاداة السامية هما ثمن بسيط يدفعونه مقابل الأمن. أمّا أميركا فقد كانت غاضبة، لكنّ العلاقة ليست على وشك الانقطاع. وإذا عاد دونالد ترامب فقد يمنح إسرائيل تصريحاً مجّانياً مرّة أخرى.
حذّرت المجلة البريطانية من أنّ “هذه القصة المغرية هي بيان لكارثة… والضرر الذي يلحق بسمعة إسرائيل يزيد من صعوبة مواصلة القتال في غزة. فالتهديد الطويل الأمد يأتي من إيران ووكلائها، بما في ذلك الحزب. ويتطلّب ردعهم شراكة عسكرية مع أميركا. وهي تحتاج إلى دعم الحزبين، ومن الناحية المثالية، دعم دول الخليج العربية أيضاً. وبدلاً من جعل الإسرائيليين آمنين، يسمّم الاحتلال الدائم السياسة من خلال تشجيع اليمين المتشدّد وتشجيع التطرّف الفلسطيني. إنّ الإسرائيليين على حقّ في اعتقادهم أن ليس لديهم شريك للسلام اليوم، لكنّهم في وضع أفضل لكسر هذه الحلقة المفرغة. كما سيؤدّي مسار إسرائيل إلى تكثيف سياساتها العرقية القومية، ويشكّل تهديدات قانونية لاقتصادها الذي يعتمد على صادرات التكنولوجيا والخبراء الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الأسواق العالمية. ومع تعمّق العزلة عن الغرب، فقد يضعف الردع. قد يتمّ إدراج الشركات في القائمة السوداء. ويمكن لرؤساء الشركات نقل شركات التكنولوجيا الفائقة إلى الخارج”.
اعتبرت إيكونوميست أنّ “على أميركا أن تساعد إسرائيل على تجنّب هذا المصير، وإذا فشلت فستدفع هي نفسها ثمناً دبلوماسياً باهظاً”.
معظم الحروب الإسرائيلية تتبعها اضطرابات سياسية ولن يكون من السهل التخلّص من نتنياهو
ورأت أنّ أفضل الحلول هو “التوصّل إلى وقف مؤقّت لإطلاق النار، وفتح الطريق أمام محادثات حلّ الدولتين. ومن دون ذلك فإنّ السياسة الأميركية ستحتاج إلى إعادة ضبط. لقد فشل نهج بايدن باحتضان إسرائيل، لكنّ الإكراه قد فشل أيضاً. فإذا حاولت أميركا إرغام إسرائيل على الخروج من غزة بينما لا يزال بوسع حماس إعادة تنظيم صفوفها، أو الحدّ من الدعم العسكري، أو سحب دعمها في الأمم المتحدة، فإنّ أمن إسرائيل قد يصبح في خطر”.
معركة مستقبل إسرائيل
في رأي إيكونوميست أنّ هناك وسائل أخرى على أميركا أن تستخدمها، ومنها قيامها بتوزيع المزيد من المساعدات الإنسانية من جانب واحد، ورفض توفير الأسلحة اللازمة لغزو رفح، والعمل على توسيع نطاق العقوبات ضدّ المستوطنين والمتعصّبين اليمينيين لكي تثبت للناخبين الإسرائيليين أنّ أميركا تضمن أمنهم، لكنّها لا تضمن التطرّف أو الاحتلال الدائم. وأخيراً، يجب أن تستمرّ في التعبير عن حرصها على الاعتراف بفلسطين كجزء من مفاوضات السلام القائمة على حلّ الدولتين.
إلا أنّ أميركا لا تستطيع أن تفعل الكثير، كما رأت إيكونوميست. معظم الحروب الإسرائيلية تتبعها اضطرابات سياسية. ولن يكون من السهل التخلّص من نتنياهو. ولكن عندما يأتي الحساب سيكون كبيراً. لقد حطّمت الحرب العديد من الأوهام: إمكانية تجاهل الفلسطينيين، وأنّ السلطة الفلسطينية ليست لديها أيّ رغبة في الإصلاح، وأنّ معاداة السامية نادرة، وأنّ إسرائيل تستطيع أن تتحدّث عن حلّ الدولتين بينما توسّع المستوطنات، وأنّ اليمين المتشدّد يمكن ترويضه.
إقرأ أيضاً: ريتشارد هاس: مستقبل إسرائيل في السلام… لا الحرب
لكنّ “الخبر السارّ”، في رأيها، هو أنّ هناك أسباباً للأمل. إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أنّ الوسطيّين في إسرائيل يمثّلون بين 50% إلى 60% من الأصوات، وأنّ مؤسّسات مثل المحكمة العليا لا تزال قويّة، وهناك قادة أفضل، وأنّ صراعاً من أجل مستقبل إسرائيل يلوح في الأفق، وأنّ المعركة من أجل غزة ليست سوى البداية.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا