من الأخطاء الكبرى أن يعتقد البعض أنّ سياسات العالم اليوم تمرّ إدارتها عبر أجهزة وحكومات تنتمي إلى دول شرعية. خرج الأمر عن سيطرة الدول states، وأصبح هناك مصطلح رسمي يحكم الأمر الواقع معترف به اسمه Non state power، أي “قوى غير الدولة”. باختصار نحن نعيش في عصر القوى المؤثّرة فيه هي قوى خاصّة أو مؤسّسات أو شركات أو ميليشيات غير نظامية، غير رسمية، غير تابعة للدولة.
حتّى نفهم المسألة مثلاً على المستوى الأوروبي، فنحن إذا أردنا أن نؤثّر على أيّ قرار مركزي رئيسي في إيطاليا يجب أن تكون شركة “إيني” العملاقة للطاقة هي مركز حركتنا.
وإذا أردنا الشيء نفسه في فرنسا يجب أن تكون لنا حظوظ ومصالح مع شركات رئيسية هي “رينو” للسيارات أو “داسو” للصناعات العسكرية والشركة المالكة للعلامة التجارية “لوي فيتون” وعشرات من المنتجات النسائية الفاخرة.
وإذا أردنا التأثير في الكرملين، فإنّ المدخل هو هيئة التصنيع العسكري الروسية ومجموعة “فاغنر” للأمن العسكري.
أمّا في الولايات المتحدة فإنّ المسألة أعقد لأنّها تحتاج إلى شبكة علاقات معقّدة ومتعدّدة تبدأ من شبكات السلاح مثل “جنرال ديناميكس” و”ريثيون” و”بوينغ”، وشركات التكنولوجيا مثل شركات إيلون ماسك وبيل غيتس ومارك زوكربيرغ، وشركات الطاقة التقليدية والمتجدّدة. ويدخل الآن على الساحة شركات الذكاء الاصطناعي التي تُعتبر مركز قوّة التأثير المحلّي والعالمي في المستقبل القريب.
كيف تواجه دولنا هذا الواقع؟
في عالمنا العربي، وفي مجالات الصراعات والأمن القومي، فإنّ منطقتنا أصبحت مهدّدة وجودياً بقوى ميليشياوية مستخدمة من دول وأنظمة. لكنّها ليست قوى رسمية نظامية.
ببساطة مصائر أمّتنا في يد قوى وميليشيات غير منضبطة لا يمكن محاسبتها بالقانون الدولي ولا في المنظّمات الدولية. لأنّها باختصار ليست عضواً ملتزماً بها.
أخطر ما في هذه الظاهرة أنّ القوى غير المنضبطة تتصرّف بالدرجة الأولى وفق مصالحها الذاتية الخاصة بمنطق الربح والخسارة الضيّق
من هنا تعاني دولنا في التعامل عبر القانون الدولي مع هذه التنظيمات. وأقصى ما يمكن أن تفعله هو أن تشدّد في البيان الختامي لمجلس الأمن الدولي من خلال عبارة: “ويدعو المجلس إلى ضرورة خروج وجلاء كلّ الميليشيات المسلّحة إلخ..”.
أخطر ما في هذه الظاهرة أنّ القوى غير المنضبطة تتصرّف بالدرجة الأولى وفق مصالحها الذاتية الخاصة بمنطق الربح والخسارة الضيّق. دون وضع أيّ اعتبارات للمصلحة العامّة أو الحفاظ على أساسيات سيادة الدولة أو مصالح مجموع المواطنين.
جيوش غير نظاميّة…
لو كان مركز التأثير ميليشيا مرتزقة فسوف يتعامل مع الملفّات على أنّها مسألة بيع وشراء، أو مالك ومستأجر، وسيّد وخادم.
لو كان مركز التأثير شركة أو مجموعة ماليّة فسوف يتصرّف من منظور مصلحة كبار المساهمين. وبمنطق الربح والخسارة. دون أيّ عواطف أو أيّ عنصر من عناصر المسؤولية الاجتماعية أو المصلحة الوطنية.
لو كان مركز التأثير شركة تكنولوجيا أو شركة أبحاث وعقاقير فسوف يتصرّف مثل ملوك كبريات شركات الأدوية والأمصال أثناء أزمة فيروس كورونا.
وفي حال الميليشيات فإنّ التعريف الموسوعي لها بشكل علمي هو: “جيش تشكّله قوى غير نظامية من مواطنين يعملون عادة بأسلوب حرب العصابات بعكس الجيوش النظامية المكوّنة من قوات نظامية محترفة”. وتكون هذه القوات “تحت الطلب” أو متوفّرة بشكل جزئي أو تابعة لتنظيمات سياسية أو دينية أو مناطقية. وفي بعض الحالات تكون ذراعاً موالياً للنظام مثل قوات “فاغنر” الروسية. أو تعبّر عن فصيل عسكري لقوى سياسية داخل النظام السياسي مثل الحزب في لبنان والحشد الشعبي في العراق، أو قوى خارجة عن النظام مثل داعش والقاعدة وجبهة النصرة.
ما هي الفاتورة؟
المعضلة أنّ عالمنا العربي منذ سنوات يدفع ثمن فاتورة باهظة التكاليف، ويعاني من قرارات تتّخذها قوى مسلّحة خارج السلطة.
باختصار نحن نعيش في عصر القوى المؤثّرة فيه هي قوى خاصّة أو مؤسّسات أو شركات أو ميليشيات غير نظامية، غير رسمية، غير تابعة للدولة
– مثلاً نعاني في اليمن من سيطرة وانقلاب ميليشيات الحوثي على السلطة في صنعاء.
– ونعاني من تعطيل اختيار الرئيس وتشكيل حكومة فاعلة وتحرير مفاصل الدولة في لبنان. بسبب الحزب الذي يعرف الجميع أنّ قوّاته وصواريخه ليست فقط لمواجهة إسرائيل.
– ونعاني من تهديد الحشد الشعبي العراقي لأيّ محاولة سلميّة لإصلاح النظام السياسي وتحريره من تأثيرات النفوذ الإيراني.
– وفي قرارات الحرب والسلام عاصرنا خمس حروب اتّخذت القرار المتفرّد بها حماس في فلسطين، وعاصرنا حروباً اتّخذ بها الحزب قرار القتال منفرداً.
وبذلك نكتشف أنّ هناك قوى عابرة لإرادة شرعية الدولة النظامية، تحمّلها تبعاتٍ لا قبل لها بها، وتلزمها بفاتورة مخيفة لم تشارك في صناعة قرارها.
لدينا اليوم 4 عواصم عربية على الأقلّ قرارات الحرب والسلام بها ليست في يد السلطة الشرعية أو الدولة المركزية ومؤسّساتها. وهي صنعاء وبيروت وغزة وبغداد.
ولدينا دولتان معطّلتان في صناعة القرار بسبب الميليشيات المتناقضة المتناحرة: في ليبيا والصومال.
أمّا في سوريا فنحن نعاني من “مطحنة ميليشيات” تعدّت 58 ميليشيا. ذات دلالات سياسية وطائفية وعرقية مختلفة فيما بينها. ومركز السلطة في دمشق يسيطر فعليّاً على ما يقارب 20% من البلاد فقط.
كيف نحمي الأمن القوميّ العربيّ؟
لذلك كلّه: كيف يمكن لنا، ونحن على حافة احتمال حرب إقليمية، القول إنّ الأمن القومي العربي تحت السيطرة؟
قرارات الحرب والسلم ليست في يد الدول.
دول الاعتدال العربي في المشرق وفي الخليج العربي تعاني من تبعات أنّ الحدود مع إسرائيل (مصر والأردن) والبحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس ومسارات نقل التجارة والطاقة كلّها تحت رحمة عمليات عسكرية من ميليشيات تشعل المنطقة. ضمن حالة من الجنون والانفلات والحرب بالوكالة تمارسها حالة التوحّش الإسرائيلي أو حالة المشروع التقسيمي الإيراني.
إقرأ أيضاً: عيد الفطر: مسارات “الاضطراب” العربي..
أعزّائي:
كلّما صعب الفهم وتعقّدت الأمور وزاد منسوب التوحّش والتصعيد الإقليمي والعيش تحت سقف الخطر المخيف… تذكّروا كلمة السرّ. وهي عبارة: “Non state actors”.
لمتابعة الكاتب على X: