تكشف مصادر مقرّبة من “الإخوان المسلمين” في بيروت لـ”أساس” أنّ شريحة من “الإخوان المسلمين” دعمت في الانتخابات البلدية التركية الأخيرة حزب السعادة التركي المحافظ، والمعارض لحزب العدالة والتنمية. والحديث هنا بالتحديد عن حركة حماس، وربيبتها الجماعة الإسلامية في لبنان… فهل هناك بدايات “انقلاب” إخواني على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحزبه “العدالة والتنمية”؟
هزيمة حزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات المحلّية فتحت الباب أمام نقاشات وتحليلات وأبحاث حول المستقبل السياسي للحزب المتربّع على عرش الحكم في تركيا منذ عقدين ونيّف. بيد أنّ ما كان لافتاً بشدّة على هامش هذه الخسارة، كمّ الشماتة الهائلة من قبل تنظيم “الإخوان المسلمين”، بإعلاميّيه ومؤثّريه وناشطيه وجماهيره. خصوصاً بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وهذا ما يمكن اعتباره نقطة تحوّل بارزة. بل انقلاب في العلاقة بين “الإخوان المسلمين”، وحزب العدالة والتنمية، الذي لطالما عُدّ ظهيراً للإخوان. وإن كانت ملامح هذا الانقلاب بدأت بالتشكّل قبل مدّة من هذه الانتخابات.
توتّر مكتوم
في السنوات الأخيرة، اتّسمت العلاقة بين “الإخوان المسلمين” وحزب “العدالة والتنمية” ببرودٍ سرعان ما نحا إلى التوتّر المكتوم. ولا سيما عقب التحوّل الكبير الذي أجرته أنقرة على سياساتها الخارجية، وقيامها بأوسع عملية مصالحات وتنقية للعلاقات مع أبرز العواصم العربية والخليجية.
هذه المصالحات لم تنزل برداً ولا سلاماً على قيادات “الإخوان المسلمين” وجمهورهم. فانقسموا إلى قسمين:
– الأوّل سكت على مضض، خاصة أنّ تركيا تحتضن قيادات ووسائل إعلام إخوانية ليس لها أيّ ملاذ آخر، وهم الفريق الأكبر.
– فيما الفريق الثاني بدأ برفع الصوت ضدّ “العدالة والتنمية” وسياساته، وحتى مبادئه، واتّهامه بأنّه يمالئ الغرب والعلمانيين. أو أنّه صنيعة الماسونيين، وغير ذلك من النعوت الطنّانة التي دأب “الإخوان المسلمون” على الترويج لها في أدبيّاتهم.
في السنوات الأخيرة، اتّسمت العلاقة بين “الإخوان المسلمين” وحزب “العدالة والتنمية” ببرودٍ سرعان ما نحا إلى التوتّر المكتوم
مع ذلك بقيت الشريحة الأوسع من الجماهير، التي تتفاعل بشدّة مع الخطاب الإسلاموي وشعاراته ومصطلحاته، مؤيّدة لإردوغان وحزبه. وبقي الرئيس التركي إردوغان بالنسبة إليهم ذاك الفارس الصنديد. والزعيم الذي يرتّل القرآن، والرئيس الكاريزميّ الذي يضمّن خطابه آيات قرآنية وأحاديث نبوية.
في غمرة الأجواء المنبعثة من ركام الزلزال الكبير الذي ضرب تركيا في شباط 2023، اندفع هذا الجمهور للدفاع عن إردوغان وحزبه خلال النقاشات التي لا تنتهي على ميادين شبكات التواصل الاجتماعي. في وجه الانتقادات العاصفة التي طالت الرئيس التركي وحكومته. واتّهمتهما بالتقصير والفساد وغضّ البصر عن مخالفات فادحة في شروط تشييد الأبنية.
حينما دقّت ساعة الانتخابات الرئاسية والمحلية في تركيا في أواخر أيار الماضي، كان مؤيّدو “الإخوان المسلمين”، ولا سيما أولئك البارزين والمؤثّرين في عوالم منصّات التواصل، والجماهير المتأثّرة بخطابه الإسلاموي، من أبرز المتحمّسين لها. وراحوا يصوّرون الانتخابات بأنّها معركة إسلامية صرفة بين إردوغان “حامي القيم الإسلامية”، وبين الملاحدة والعلمانيين، ومن خلفهما الغرب الداعم لهما. حتى إنّ الاحتفالات بفوز إردوغان وحزبه في تلك الانتخابات عمّت أكثر من مدينة عربية، وخصوصاً لبنان حيث خرجت المسيرات في العاصمة بيروت وطرابلس وغيرهما، للاحتفال بالفوز المظفّر لـ”خليفة المسلمين”. وكان على رأس تلك الاحتفالات قيادات ونخب من أفرع “الإخوان المسلمين”، الذين أقام بعضهم صلاة الشكر لله تعالى على هذا “النصر المبين”.
الانتخابات ودلالات التّحوّل الإخوانيّ
بعد 7 أشهر فقط، انقلبت الصورة بالكامل لدى الجماهير نفسها، وقادة الاحتفالات، تحت وطأة تأثير حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وأهلها. هنا لا بدّ من التوقّف عند عامل شديد الأهمية لم يأخذ حقّه في النقاش في ذلك الحين. على الرغم من أنّه كان يحمل دلالات واضحة على التحوّل الحاصل اليوم في مزاج “الإخوان المسلمين”. يتمثّل هذا العامل في دعم شريحة من “الإخوان المسلمين” في تلك الانتخابات لحزب السعادة التركي المحافظ، والمعارض لحزب العدالة والتنمية. وفق ما كشفت عنه مصادر مقرّبة من “الإخوان المسلمين” في بيروت. والحديث هنا بالتحديد عن حركة حماس، وربيبتها الجماعة الإسلامية في لبنان.
بعد عملية “طوفان الأقصى”، صارت حركة حماس وفق دعاية “الإخوان المسلمين”، سيف الله المسلول في وجه الصهاينة وأعداء الأمّة
على الرغم من حدّة المنافسة في الانتخابات، التي فرضت حصول جولة ثانية في الانتخابات الرئاسية، إلا أنّه عملياً لم يكن هناك تأثير لأصوات العرب الحاصلين على الجنسية التركية. لذا لم يثِر هذا الموقف الكثير من الاهتمام، خاصة أنّ غالبية حمَلة الجنسية التركية من الفلسطينيين واللبنانيين وسواهما من أبناء الجالية العربية لم يتجاوبوا مع تلك الدعوات. لكنّ أهمّيّته تنبع من كونه يحمل نذر انقلاب في العلاقة بين حزب العدالة والتنمية و”الإخوان المسلمين”. ولا سيما أنّ “العدالة والتنمية” يعاني من انقسامات وشروخات عميقة سعت حركة حماس إلى استغلالها من أجل فرض سيطرتها على قرار بعض أفرع “الإخوان المسلمين” القريبة جغرافيّاً، وتأطيرها ضمن “المحور الإيراني”.
كلمة السّرّ… غزّة
بعد عملية “طوفان الأقصى”، صارت حركة حماس وفق دعاية “الإخوان المسلمين”، سيف الله المسلول في وجه الصهاينة وأعداء الأمّة. وبات إردوغان وحزبه “موضة قديمة”، غير صالحة للمزايدات والشعبويات الإسلاموية. احتلّت مكانهما استعراضات الحوثيين والجماعة الإسلامية في شوارع بيروت. وراح المؤثّرون والمدوّنون الموالون للإخوان يمعنون في ذمّ مَن لطالما صوّروه “المدافع عن حياض الإسلام”. وغير ذلك من الصفات الدينية التي يبرعون في سبكها. والرجل الذي، قبل 6 أشهر فقط، كانوا يعتبرون خسارته في الانتخابات هزيمة لـ”الإسلام”، صار “عميلاً خان القضية بثمن بخس”. باعتباره فضّل استمرار علاقات بلاده التجارية مع إسرائيل عليها.
بات إردوغان وحزبه “موضة قديمة”، غير صالحة للشعبويات الإسلاموية. احتلّت مكانهما استعراضات الحوثيين والجماعة الإسلامية في بيروت
والحال أنّ غزة كانت “كلمة السرّ” في كلتا الحالتين الشديدتَي التناقض. فصعود نجم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على الصعيد العربي، كان قد بدأ عقب الحادثة الشهيرة التي جرت بينه وبين الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في “منتدى دافوس” عام 2009، غداة هجوم إسرائيلي على قطاع غزة. حينذاك، ملأت الجماعة الإسلامية شوارع الحواضر السنّية في لبنان بصور إردوغان ممهورة بتوقيعها. وكذلك فعلت حركة حماس في شوارع قطاع غزة. ومن بعدها بدأت دعاية “الإخوان المسلمين” بتصويره الرجل الذي سيعيد أمجاد الماضي الإسلامي التليدة.
وكذلك الحال اليوم، إذ يروّج “الإخوان المسلمون” بأنّ موقفه المتخاذل تجاه أهل غزة هو السبب في هزيمته وحزبه في الانتخابات المحلّية. ربّما يكون الأمر فعلاً كذلك، لكنّه بالتأكيد ليس العامل الوحيد، بل ضمن مجموعة عوامل، وقد يكون أقلّها تأثيراً. فلو كانت الحرب على غزة لديها كل هذا التأثير في مجريات العملية الانتخابية، لما كان الأتراك الغاضبون من إردوغان صوّتوا لحزب “الشعب الجمهوري”، المعروف بعدائه لـ”الإسلام السياسي”، والذي يصنّف حركة حماس “إرهابية”. ولكانت أصواتهم صبّت في مصلحة حزب “الرفاه من جديد”، الذي طالب بإيقاف التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل. أو أحزاب إسلامية محافظة أخرى، لكنّ هذا الطرح هو نتيجة دعاية “الإخوان المسلمين”.
إقرأ أيضاً: “شيطنة” سُنّة لبنان: المهمّة المستحيلة
تلك الدعاية ترفع من تشاء إلى مصافّ الأنبياء والأولياء والصحابة، وتؤبلس مخالفيها وتهوي بهم إلى مصافّ المنافقين والخونة. وكلّ ذلك وفق تأويلات دينية راديكالية “غبّ الطلب”، تستخدم فيها الآيات والأحاديث النبوية نفسها لتسويغ الشيء ونقيضه ونقيض نقيضه.