بين حقبة وأخرى، يتصدّر “ترند” مواجهة التطرّف واجهة الأحداث والتطوّرات السياسية. يُستخدم ذاك التطرّف غبّ الطلب السياسي ووفق ما تقتضيه المصلحة. قد يجد لنفسه أرضاً خصبة في بيئات مهمّشة أو محرومة. أو حتى في البناء على سرديّات ماورائية تندفع إليها جموع من الفئات الشبابية المتحمّسة “لتغيير العالم”.
ليس التطرّف سمة محصورة بالإسلام، والإسلام السياسي خصوصاً، بل هناك أشكال وأنواع مختلفة، بعضها ديني طائفي، وبعضها الآخر قومي وعرقي. لبنان من جملة دول أو ساحات يطالها هذا “الترند” بعد عملية طوفان الأقصى.
تستحقّ مثل هذه الملفّات مقاربات موسّعة جداً تتخطّى المجلّدات. وهناك نظريّات كثيرة يمكن أن تعتمد في آليّات التحليل والتدقيق، وجميعها تنطلق من نظرية الأواني المستطرقة. التي تثبت نظرية غذاء التطرّف بالتطرّف المضادّ. وبما أنّه لا مجال للإحاطة بكلّ التفاصيل والقواعد، يمكن انتقاء بعض النماذج التي يجري العمل على تسويقها في هذه المرحلة لبنانياً. وهو يخصّ بالتحديد السُّنّة المعنيّين بشكل مباشر بعد عملية طوفان الأقصى. وما ثبّت الأنظار على ذلك نقطتان:
1- انخراط الجماعة الإسلامية في مواجهة إسرائيل بعمليات متفرّقة في جنوب لبنان إلى جانب الحزب.
2- كلام قاله رئيس تيار المستقبل سعد الحريري خلال وجوده في بيروت، وجاء فيه أنّه سيتحرّك لدى استشعاره أنّ السنّة قابلين للميل نحو التطرّف، الإسلامي طبعاً.
3- تغريدات مافرقة لسياسيين تهدد بدخول آلاف المتطرفين من سوريا والعراق إلى لبنان.
ليس التطرّف سمة محصورة بالإسلام، والإسلام السياسي خصوصاً، بل هناك أشكال وأنواع مختلفة، بعضها ديني طائفي، وبعضها الآخر قومي وعرقي
حماس والحماسة… وسنّة لبنان
بالنسبة إلى النقطة الأولى، فإنّ عملية طوفان الأقصى التي كسر فيها مقاتلو حركة حماس الهيبة الإسرائيلية وتجاوزوا الدفاعات وهدموا منظومة الردع الإسرائيلية، أنتجت صدى من استشعار النشوة في قلوب أكثرية عربية، وسنّية بالتحديد. استشعر هؤلاء قوّة كانت مفتقدة، بعد انهيارات وهزائم وانكسارات. أسهم هذا الشعور بالانخراط أكثر وبحماسة أكبر تماهياً مع المقاومة الفلسطينية ضدّ إسرائيل. كانت العاطفة جامحة إلى حدّ إذابة الفوارق والخلاف مع الحزب أو تناسيها ووضعها جانباً.
بما أنّ حركة حماس هي أحد تنظيمات الإسلام السياسي السنّي، وربّما آخر ما بقي منها في سلطة مسيطرة على مساحة جغرافيّة ومؤسّسات ومجتمع، كان لا بدّ للصدى أن ينعكس على من يتشابه معها. وهو ما انعكس على الجماعة الإسلامية في بيروت، التي كانت لديها علاقة عضوية مع حماس تعزّزت أكثر مع انتخاب الشيخ محمد طقوش أميناً عامّاً للجماعة. حتى إنّ القيادي الفلسطيني الذي اغتالته إسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت صالح العاروري كان أحد أبرز المهتمّين بتأطير العلاقة بين حماس والجماعة الإسلامية في لبنان.
من يعرف طقوش يقول إنّه انتخب على أساس دمج الجماعة في مشروع محور المقاومة، والتقارب مع الحزب. أحدث ذلك اختلالاً في ميزان الجماعة السياسي، وسط محاولات كثيرة من القيادة السابقة لإصلاح العلاقة مع الحزب. بعدما تضرّرت بفعل الخلاف حول دعم الثورة السورية أو الوقوف ضدّها. قبل انتخاب طقوش حصلت لقاءات وتعزّزت بعد انتخابه، لكن كانت هناك فئات معترضة.
في عزّ الحرب الأهليّة والانقسام الطائفي اللبناني، كان السُّنّة في لبنان من دعاة الدولة. وهم الذين لم يشكّلوا ميليشيات طائفية أو مذهبية
خلاف مع حزب الله؟
عندما نفّذت الجماعة الإسلامية أولى عمليّاتها، اتّضح مسار التماهي مع الحزب. إلى أن خرج الأمين العامّ للحزب في خطابه الأوّل ولم يذكر الجماعة من بين القوى المشاركة في العمليات. وهو ما أثار حفيظة الكثيرين. وبعدها حصلت إشكالات عديدة حول العمليات وكيفية تنفيذها. أدّى ذلك إلى بعض الاختلافات أو الانقسامات. كما حصل سابقاً في حركة حماس قبل الوصول إلى إعادة تجديد سلطتها واختيار مسؤول داخل القطاع هو يحيى السنوار، يندمج مع الجسم العسكري للحركة، ويديران معاً الواقع على الأرض. في مقابل اتجاه المكتب السياسي خارج غزة إلى البحث عن تحسين العلاقات مع دول عربية في عملية تشبيك وفتح علاقات بما يوحي بإعادة التموضع.
بدأت محاولات استقطاب عدد من الشبّان مع إقدام الجماعة على تنفيذ عمليات عسكرية .في جنوب لبنان ضدّ إسرائيل. وترافق ذلك مع إعلان حماس عن تنظيم طلائع طوفان الأقصى لاستقطاب الشبّان أيضاً. لكن بحسب المعلومات الأمنيّة والعسكرية فإنّ هذه الدعوات لم تلقَ قبولاً أو تجاوباً كبيراً. في المقابل، واصلت الجماعة الإسلامية تحرّكاتها الهادفة إلى الاستقطاب وإظهار أنّ لديها جسماً عسكرياً وأمنيّاً مبنيّاً جيّداً على المستوى التنظيمي. لعلّه يستقطب العدد الأكبر من الشبّان، كنوع من تكريس نفوذ أوسع على الساحة السنّية. لكنّ ذلك لم يلقَ الصدى المطلوب أيضاً.
قوى الاعتدال… والعرب
كلّ ما ورد في النقطة الأولى هو الذي دفع إلى ما ورد في النقطة الثانية. وسط تعبير قوى الاعتدال عن التخوّف من تنامي ظاهرة قوى الإسلام السياسي أو القوى المتطرّفة. على قاعدة أنّ وجود الحزب كتطرّف شيعي لا بدّ أن يقابله تطرّف سنّي يتمثّل بالجماعة الإسلامية. وهنا يُخلق جدال لا ينتهي حول اعتبار الجماعة في موقعها الطبيعي تعبيراً عن المزاج المسلم السنّي المعادي لإسرائيل منذ ما قبل نشوء الحزب وما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران. لكنّ المسألة لا ترتبط بالعداء لإسرائيل، إنّما بالحسابات السياسية المختلفة. في هذا المجال، تسوّق قوى الاعتدال للمخاوف من تنامي ظاهرة الإسلام السياسي، ولذلك لا بدّ من مواجهتها.
يمكن الاستدلال على استحالة التطرّف من خلال مثال تفجير مسجدَي السلام والتقوى في طرابلس. وما كشفته التحقيقات من تخطيط النظام السوري له
لكنّ ذلك لا تظهر له أرضيّة في لبنان، فكلّ التجارب تثبت ذلك:
1- بيروت احتضنت منظمة التحرير الفلسطينية تاريخياً بدون أيّ مظهر من مظاهر التأسلم السياسي. هذا في ما يتّصل بالقضية الفلسطينية التي لا تحتاج إلى الأسلمة.
2- في عزّ الحرب الأهليّة والانقسام الطائفي اللبناني، كان السُّنّة في لبنان من دعاة الدولة. وهم الذين لم يشكّلوا ميليشيات طائفية أو مذهبية، لا بل اشتهر السنّة بمواجهة الميليشيات. (شكّلت طرابلس استثناءً بسبب محاولات كثيرة لإنتاج قوى مسلّحة على أساس ديني من حركة التوحيد إلى حزب التحرير. أو بسبب تغذية آل الأسد لعلي عيد وبطشه بأهل المدينة لإنتاج تطرّف مقابل).
3- لم تشهد الجماعة الإسلامية في لبنان اتّساعاً أو انتشاراً لها. ولم تتمكّن من إنجاح أحد مرشّحيها للانتخابات النيابية إلا من خلال التحالف مع قوى الاعتدال. ولم يصل منهم إلى ساحة النجمة إلا عماد الحوت في بيروت.
4- كلّ محاولات إظهار السُّنّة في لبنان .على أنّهم متطرّفون لم تنجح. وكانت كل التحرّكات منبوذة. من استحضار مشهد تظاهرة السفارة الدنماركية في الأشرفية عام 2005 إلى معركة نهر البارد التي خاضها الجيش ضدّ القوى الإرهابية بقرار وغطاء سنّي واضح.
5- يمكن الاستدلال على استحالة التطرّف من خلال مثال تفجير مسجدَي السلام والتقوى في طرابلس. وما كشفته التحقيقات من تخطيط النظام السوري له. إلى جانب التخطيط لعمليات أخرى كتفجيرات في مناطق مسيحية كانت غايتها اتّهام قوى التطرّف السنّي غير الموجودة بفعّالية أساساً.
كلّ محاولات إظهار السُّنّة في لبنان .على أنّهم متطرّفون لم تنجح. وكانت كل التحرّكات منبوذة
لا أرض خصبة للتطرّف في لبنان
يمكن إضافة أسباب وشواهد كثيرة على انعدام الأرضية الخصبة للتعاطي اللبناني مع قوى التطرّف الإسلامي. إلا أنّ المشكلة الأساسية لا تكمن هنا، بل في عدم بلورة مشروع سياسي متكامل يمكن له أن يلغي كلّ هذه التخيّلات أو المحاولة في استثمارها. علماً أنّ تجربة ما بعد عام 2015 وانتشار تيار المستقبل في كلّ لبنان بناء على تحالف وطني عريض انطلاقاً من عنوان سياسي واضح هما اللذان ألغيا أيّ مفاعيل لتصوير السنّة في لبنان بأنّهم يتّجهون نحو التطرّف.
عدا عن ذلك كلّه، هناك تجارب كثيرة شهدها اللبنانيون تبيّن أنّ كلّ مشاريع الإسلام السياسي أو الجهادي لم تنتج إلا مشاريع تخريب وتهجير، للسنّة كما لغيرهم. وهذا ما أنتج سقوطاً لمفهوم الدولة الوطنية في سوريا، وفي العراق، وفي دول أخرى. وذلك لم يكن ليحصل لو لم يكن هناك أيضاً تطرّف شيعي مضادّ.
بالعودة إلى عملية طوفان الأقصى وتداعياتها، وتشكّل جوّ دولي وعالمي مناهض وضاغط على حركة حماس، فإنّ “ترند” مواجهة الإسلام السياسي يعود انطلاقاً من البحث عن مستقبل غزة ومن يحكم القطاع. فهناك من يرفع شعار “إنهاء حماس”، وهو مسألة مستحيلة لأنّ حماس عبارة عن فكرة. وتقابلها مسألة عدم قدرة حماس على العودة لحكم القطاع أو إدارته إلا في حال أحدثت تغييراً جذرياً في بنيتها التنظيمية والعسكرية والأيديولوجية، على صورة ومثال ما أقدمت عليه منظمة التحرير في التسعينيات.
إقرأ أيضاً:
وهذا يعني الانتقال من حال إلى حال لا يمكن أن ينتج ما يتفرّع منه في ساحات أخرى، وخصوصاً في لبنان. فيما هناك محاولة للتعويض عن ذلك في الأردن إمّا بالتظاهرات الكبيرة أو بالدعوات العراقية القريبة من إيران لتسليح المجموعات الأردنية وفتح الحدود. وهو ما ينتج تقاطعاً بين متناقضات. إذ يحصل تعويض معنويّ لقوى الإسلام السياسي، وتسجيل إيراني لاختراق ساحة جديدة، وضغط إسرائيلي بمفعول رجعي ومستقبلي على الأردن الذي يرفض تهجير الفلسطينيين من غزة ومن الضفة.