إردوغان في مواجهة إردوغان؟

مدة القراءة 8 د

دفع حزب “العدالة والتنمية” التركي في 31 آذار المنصرم تاريخ الانتخابات التركية البلدية ثمن النوم في العسل منذ عقدين وأكثر. أسّس في العقد الأول لوجوده في السلطة عام 2002 لبناء هيكل سياسي واقتصادي وأمنيّ جديد يتجاوب مع متطلّبات وأهداف تركيا. لكنّه في العقد الثاني بدأ يواجه عقبات نتيجة مواقفه وسياساته المعتمدة في الداخل والخارج، وفي مقدَّمها تحويل النظام البرلماني إلى رئاسي – حزبي بصلاحيات واسعة للرئيس.

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ومن على شرفة حزب “العدالة والتنمية” في أنقرة، بعد تزويده بالأرقام الأوّلية للخسارة، أعلن التالي: “سننظر إلى أنفسنا.. لا أحد فوق المُحاسبة”.

من وقتها تنصبّ جهود قيادات الحزب وكوادره والداعمين له في الإعلام على تحليل ما جرى قبل أسبوعين. ليس بهدف امتصاص الهزيمة والالتفاف عليها هذه المرّة، بل بهدف التعامل معها بواقعية، كما أُعلن على لسان أكثر من مسؤول.

الأسئلة كثيرة…

يتحدّث إردوغان عن “نقطة تحوّل” لا مفرّ منها بالنسبة لحزبه. وعن المنتصر الأوّل في الانتخابات، وهو “ديمقراطيّتنا وإرادتنا الوطنية”. فكيف سيترجم ما قاله للناخب عن توصيف الانتخابات بأنّها معركته الدستورية الأخيرة؟ هل يمضي وراء خيار التنحّي والمغادرة الحزبية والسياسية في عام 2028؟ أم يقلب خارطة الحسابات السياسية بأكملها في تركيا ويدعم سيناريو الانتخابات المبكرة قبل انتهاء فترة حكمه بهدف استرداد 10 نقاط فقدها حزبه قبل أسبوعين بالمقارنة مع نتائج أيار المنصرم؟

بل كيف سيتمكّن إردوغان من إرضاء قواعد المحافظين المغبونين والتقرّب من المعارضة اليسارية العلمانية في وقت واحد؟ وكيف سيقطع الطريق على حزب “الرفاه من جديد” الذي اخترق ساحة تقاسم النفوذ الحزبي في اليمين التركي؟ وهل يكفيه أسلوب مواصلة مهاجمة المعارضة الجديدة التي يقودها حزب الشعب بالتفاهم مع حزب الشعوب الواسع النفوذ في مناطق جنوب شرق تركيا؟

تقول إرادة الناخب الكثير هنا، وعلى “العدالة والتنمية” وقياداته البحث في مضمون الرسائل وأهدافها وأسبابها

جال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في المدن والأقضية التركية لأسابيع وهو يدعو الجماهير المحتشدة لدعم حزبه والوقوف بجانب تحالف الجمهور والتصويت لهما. هاجم المعارضة التي “لم تقدّم شيئاً لتركيا”، كما يقول. لكنّه تحدّث عن الإرادة الوطنية الواجب قبولها واحترامها في أعقاب إعلان فوز الشعب الجمهوري في الانتخابات المحلّية.

تقول إرادة الناخب الكثير هنا، وعلى “العدالة والتنمية” وقياداته البحث في مضمون الرسائل وأهدافها وأسبابها. إذا ما كانوا يريدون تصحيح المسار واسترداد ما فقدوه.

تراجعت شعبية حزب العدالة إلى 35%، بعدما كانت تصل إلى 45 في المئة. بالمقابل حصل حزب الشعب الجمهوري على 37 في المئة من مجموع الأصوات بعدما ترسّخت حصّته على 25 في المئة. كلا الطرفين يدرك صعوبة تحديد الحجم الحقيقي لشعبيّته هذه المرّة بسبب تداخل التحالفات والاصطفافات وتنقّل الأصوات بعيداً عن الهويّات الحزبية والعقائدية والخيارات السياسية. إلى جانب ما لا يقلّ عن 8 في المئة من المغبونين في قواعد “العدالة”، وتراجع نسبة المشاركين إلى 78 في المئة بالمقارنة مع آخر انتخابات وصلت فيها الأرقام إلى 88 في المئة.

ما هي الأسباب.. وما هي خريطة المواجهة؟

التعامل مع ما جرى لن ينجح ما لم يكن بعيداً عن التلطّي خلف ما ينتظر حزب “الشعب الجمهوري” المعارض المنتصر الأوّل في الانتخابات من مخاطر. بل من خلال تحديد أسباب الخسارة ووضع خارطة طريق سياسية واقتصادية واجتماعية ودستورية جديدة يتمّ التعامل معها.

المتوقّع الآن هو تقديم بعض التنازلات على طريق الإصلاح السياسي والدستوري ولغة جديدة حيال المعارضة، والتنسيق معها في ملفّات مشتركة ذات طابع وطني. والمصالحة مع المغبونين من أقلام ومفكّرين كانوا حتى الأمس القريب من أبرز الداعمين لإردوغان وحزبه. وتشكيل فريق عمل جديد يهادن ويساوم.

واقعية إردوغان لن تتركه يواصل الرهان على “تحالف الجمهور” وشريكه حزب “الحركة القومية” الذي تلقّى ضربة لا تقلّ إيلاماً عن ضربة حزب العدالة لإخراجه من الورطة

هناك إجماع في صفوف الحكم والمعارضة التركية على أنّ عامل الوضع الاقتصادي والمعيشي واحتياجات حوالي 16 مليون متقاعد لم يُستجَب لها. ومن أسباب الهزيمة طريقة اختيار المرشّحين والاسترخاء الحزبي في صفوف قيادات وكوادر “العدالة”. إضافةً إلى الاستياء من طريقة التعامل مع ما يجري في غزة وما نُشر حول استمرار إرسال موادّ خام أوّلية لإسرائيل. كلّها مسائل أساسية في أسباب الهزيمة.

صحيح أنّها، في نهاية المطاف، معركة من سيتولّى إدارة شؤون البلديات في تركيا للسنوات الخمس المقبلة. وأنّ إردوغان وحزبه هما على رأس السلطة التنفيذية والتشريعية حتى عام 2028 حسب الدستور التركي… لكنّ مفاجاة 31 آذار المنصرم قابلة لأن تتسبّب بأزمة سياسية أكبر لحزب العدالة. إذا ما فشل في لملمة الأمور باكراً والخروج بخارطة طريق واقعية وعمليّة توقف انزلاق الأصوات قبل الحديث عن استرداد المفقود.

انفجرت التصريحات والتغريدات داخل حزب العدالة في اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات المحلّية. مساءلة عمودية وأفقية لا مهرب منها حول ما جرى. وحزب العدالة لم يحمّل “القوى الخارجية المتآمرة” مسؤولية الخسارة، وأعلن أنّه قبِل الهزيمة وسيتعامل معها بواقعية.

إذاً فإنّ واقعية إردوغان لن تتركه يواصل الرهان على “تحالف الجمهور” وشريكه حزب “الحركة القومية” الذي تلقّى ضربة لا تقلّ إيلاماً عن ضربة حزب العدالة لإخراجه من الورطة. مستقبل حزب العدالة هو على المحكّ ومواجهة التحدّيات والمخاطر في السنوات الأربع المقبلة يتطلّب البحث عن سيناريوهات سياسية جديدة مغايرة.

“قرض سياسي” لحزب الشعب الجمهوري

منح الناخب التركي “حزب الشعب الجمهوري” المعارض قرضاً سياسياً كبيراً بتاريخ 31 آذار الماضي. احتمال نجاح “العدالة” في الالتفاف على خسارته مرتبط أيضاً بطريقة استخدام “حزب الشعب” لهذا القرض. فنجاح “حزب الشعب الجمهوري” في مواصلة صعوده على هذا النحو سيحوّله إلى الحزب البديل بقرار من قواعد أحزاب المعارضة. وبدعم من المغبونين والمهمّشين في “العدالة”. وسيعرّض كلّ ما شيّده إردوغان بين 2016 و2019 للخطر والتراجع والانهيار.

تشخيص الحالة وطريقة العلاج ينبغي أن يتطابقا. إردوغان وحزبه لن يبحثا عن المفتاح الذي فقداه في العتمة حيث يوجد الضوء

المعنيّ هنا هو النظام الرئاسي والرئيس الحزبي والعودة إلى الحكومة البرلمانية ونهج تقاسم السلطات الكلاسيكي. وهذا يعني أنّ البلاد ستنتقل من نقاشات ردّة فعل المواطن التركي على الوضع الاقتصادي والمعيشي وأرقام التضخّم والغلاء وتراجع قيمة الليرة… إلى مخاطر مشهد سياسي ودستوري مغاير تماماً لما شيّده إردوغان في السنوات الخمس الأخيرة.

يختار الناخب التركي قبل 10 أشهر إردوغان رئيساً بفارق كبير عن منافسه في الجولة الثانية لمعركة الرئاسة. بعد 10 أشهر يقرّر المواطن معاقبة حزبه ونقله إلى مقعد الحزب الثاني في البلاد. يذكّرنا هذا بما كان الزعيم السياسي التركي الراحل سليمان ديميريل يردّده حول استحالة وقوف أيّ حزب أو سلطة سياسية في مواجهة “الطنجرة الفارغة”. وعلى حزب العدالة أن يبدأ تحرّكه من هذه النقطة أوّلاً.

المتوقّع الآن هو تخلّي إردوغان عن فكرة “المغادرة الدستورية” التي كان يلمّح إليها خلال حملاته الانتخابية. وعدم ترك حزبه وسط هذا الانسداد والمدّ والجزر اللذين يعيشهما. فهناك تحت كتلة الثلج العائمة ما هو أخطر. ولا بدّ من التعامل معه بسرعة وجدّية كي لا تتحوّل الهزيمة إلى كارثة حزبية.

منح الناخب التركي “حزب الشعب الجمهوري” المعارض قرضاً سياسياً كبيراً بتاريخ 31 آذار الماضي.

رسالة إلى أردوغان.. وحزبه

فصل العديد من الكتّاب والأكاديميّين الأتراك بين حصّة إردوغان وبين حصّة حزبه في كلّ الانتخابات التركية ونتائجها. ما جرى يوم 31 آذار الماضي يُسقط هذا الطرح. فالرئيس التركي هو الذي كان يقود حملات الدفاع عن حزبه والدعوة إلى دعمه والتصويت له في الانتخابات الأخيرة. إذاً رسالة الناخب التركي موجّهة لإردوغان وحزبه معاً هذه المرّة.

وصل إردوغان إلى السلطة عام 2002 على صهوة جواد تحالف الحكم الثلاثي الذي كان يقوده بولاند أجاويد بمشاركة دولت بهشلي وحزب الوطن الأمّ. وهو التحالف الذي عايش أكثر من أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية. جاء الشعب الجمهوري قبل أسبوعين على صهوة جواد حزب العدالة الذي أغضب الناخب فقرّر استبدال الفارس. انتزع البلديّات، لكنّ معركة البرلمان والرئاسة مؤجّلة.

لن ينتظر حزب الشعب إردوغان وحزبه للخروج من المحنة. وسيواصل تحرّكه بأكثر من اتّجاه في الداخل والخارج، كما قال رئيسه أوزغور أوزال. سيحاول أن يحصّن مواقعه باتجاه بناء معارضة جديدة غير الطاولة السداسية المنهارة. وسيحاول الاستعداد لوضع تصوّر شامل حول السياسة الخارجية التركية.

لن يخرج الداخل التركي من حالة الذهول والاندهاش التي يعيشها منذ مساء 31 آذار المنصرم بسهولة كما يبدو. الأحزاب مندهشة، القيادات مندهشة، والناخب الذي رسم هذه الصورة مندهش أيضاً للنتيجة.

إقرأ أيضاً: تسونامي الناخب التركي!

تشخيص الحالة وطريقة العلاج ينبغي أن يتطابقا. إردوغان وحزبه لن يبحثا عن المفتاح الذي فقداه في العتمة حيث يوجد الضوء.

المسار التوافقي بين اليسار واليمين وبين الحكم والمعارضة هو ما يريده الناخب هذه المرّة لإخراج البلاد من أزماتها. من يعرقل أو يرفض أو يقاوم فسيدفع الثمن حتماً.

وللحديث تتمّة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…