شيء ما تحرّك في الأردن وبدا مقلقاً. دخلت على التظاهرات الداعمة لفلسطين وغزّة أعراض عنف وأجندات فصائلية تتجاوز مسلّمات الدعم الشعبي وقواعده. اختلف حراك المسيرات الجماهيرية، وخصوصاً حول السفارة الإسرائيلية في عمّان، عمّا عرفه البلد منذ بدء الحرب على غزّة. صارت مشاهد المواجهات بين رجال الشرطة والمتظاهرين ومشاهد التخريب التي تعرّضت لها الممتلكات العامّة تطرح سؤالاً أردنيّاً: كيف تستفيد غزّة من فوضى تتهدد عمّان؟
تدافعت تقارير أمنيّة تكشف أنّ هناك أصابع خارجية بدأت بالشراكة مع أصابع داخلية تعمل للعبث بأمن البلاد. وتكمن خطورة الأمر في أنّه يجري تحت عناوين فلسطينية وشعارات تضامنيّة مع الغزّيين. صدر بيان للأمن العام الأردني قال إنّ الوقفات شهدت تجاوزات وإساءات ومحاولات للاعتداء على الشرطة، وإنّ أشخاصاً تعمّدوا على مدى أيام الاحتكاك مع رجال الأمن العام. وإذا كان في الأمر همس قبل أسابيع، فإنّ الحكومة خرجت تتحدّث علناً بعتب وغضب عن تدخّل في شؤون المملكة.
تصعيد مشعل والعتب الأردنيّ
على خلفيّة هذا العتب خطاب لرئيس حركة حماس في الخارج، خالد مشعل، عبر تقنية الفيديو، في فعّاليّة أردنية، دعا فيه إلى “نزول الملايين إلى الشارع بشكل مستدام”. سبق لقيادات من حماس أن غمزت من قناة الأردن منتقدة متشكّكة محرّضة. دعا إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي للحركة، إلى زحف نحو الحدود. وطالب القيادي أسامة حمدان الشعب الأردني “بعشائره وأبنائه جميعاً” بقطع ما قال إنّه خطّ لنقل البضائع من الأردن إلى إسرائيل.
ردّ وزير الاتصال الحكومي الناطق باسم الحكومة الأردنية مهنّد مبيضين متمنّياً على قادة حماس أن “يوفّروا نصائحهم ودعواتهم لضرورة حفظ السلم والدعاء بالصمود لأهلنا في قطاع غزة”. وذكّر أنّ “الأردن بلد له سيادة وله مرجعيّاته الدستورية”. وقال إنّه “عندما يكون الملك عبد الله الثاني في مقدَّم الموقف العربي لا ننظر إلى بعض المراهقات السياسية، ولا إلى من يريد أن يحصد الشعبية على أنقاض الدمار الذي حلّ في غزة نتيجة لهذه الحرب الكارثية”.
ازداد تدهور علاقات الأردن مع إسرائيل. بدا في سجال عمّان مع بنيامين نتنياهو وحكومته ما يكشف عن صراع يشبه القطيعة
وأوضح أنّ “هناك أيديولوجيات بائسة وشعبويّات تريد تأليب الرأي العامّ باستغلال المشاعر والعواطف”. وانتهى إلى أنّ “هناك إفلاساً من القوى التي تريد أن تطعن في الموقف الأردني أو تريد إجبار الأردن على اتّخاذ خيارات أخرى”.
العداء الإيرانيّ للأردن
في الأردن من ربط “التحريض” بالزيارة التي قام بها وفد من حركة “حماس” بقيادة هنيّة لإيران، ولاحظ تقاطع خطاب “حماس” مع تعهّد “حزب الله العراقي” بتسليح “المقاومة في الأردن”. وفي عمّان من تساءل عن إمكانية تحرّك أجندات قديمة-جديدة ضدّ الأردن. ولهذا الربط المحتمل سياقات لا تغفلها عيون المراقب.
لم تخفِ إيران منذ عقود عداءها للأردن. ولم يخفِ العاهل الأردني منذ عام 2004 التحذير مبكراً من “هلال شيعيّ”. أوضح عام 2020 ما قصده. قال إنّه “هلال إيراني له امتداداته في العراق وسوريا ولبنان”. وفيما تجابه القوات الأردنية على الحدود مع سوريا عصابات تهريب المخدّرات. فإنّ عمّان استنتجت دائماً رعاية إيران وحزبها في لبنان لكلّ الأنشطة الحدودية المزعزعة لأمن الأردن.
بالمقابل ازداد تدهور علاقات الأردن مع إسرائيل. بدا في سجال عمّان مع بنيامين نتنياهو وحكومته ما يكشف عن صراع يشبه القطيعة. حتى إنّ عمّان استقبلت مسؤولين إسرائيليين ولم تفتح أبوابها لنتنياهو وصحبه. والواضح أنّ في عقلية الحاكم في إسرائيل فكرتين: الأولى رفع الوصاية الهاشمية عن المقدّسات الإسلامية في القدس. والثانية التلويح الدائم بالأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين.
لطالما عاش الأردن في خلطته المجتمعية في قلب منطقة صاخبة أرخت ظلالاً قاسية على يوميّات البلد واستقراره. كان على الأردن أن يتعايش بصعوبة في أوقات متتالية أو متزامنة مع براكين الأزمات المتفجّرة لدى دول الجوار: فلسطين، سوريا، العراق. وخلف ذلك كلّ التحوّلات الدراماتيكية التي شهدها الشرق الأوسط منذ عقود. وحين اجتاح “الربيع” المزعوم دول المنطقة. وصلت شراراته إلى البلد وتمكّن بحنكة وحذاقة ونضج من عدم الوقوع في الفخّ العدميّ وإنتاج نسخة أردنية متطوّرة تقاطع داخلها شارع البلد وسلطاته للحفاظ على وحدة الأردن واستقراره.
لطالما عاش الأردن في خلطته المجتمعية في قلب منطقة صاخبة أرخت ظلالاً قاسية على يوميّات البلد واستقراره
على خلفيّة هذا الواقع مارس الأردنيون طقوس التضامن والدعم التقليدي والتاريخي لفلسطين. خرجوا كالمعتاد لاستنكار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة. قدّمت تظاهراتهم واجهات غضب ضدّ الإسرائيليين ومشاهد الدعم الكامل لأهل القطاع. بدا الأردن سبّاقاً في إرسال شحنات الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى الغزّيين. وكان الأردن أوّل بلد ينظّم موجات من عمليات إسقاط المساعدات جوّاً. التحقت دول عربية وغربية لاحقاً بهذه العمليات، وتمّ جُلّها بالتعاون من الأردن وانطلاقاً من مطاراته.
لم تخفِ إسرائيل إثر عملية “طوفان الأقصى” خططاً داهمة للتخلّص من المسألة الفلسطينية بالتخلّص من الفلسطينيين جميعاً. طرحت حكومة بنيامين نتنياهو خططاً لإفراغ قطاع غزّة من ساكنيه، ودفعهم للهجرة صوب سيناء في مصر. وخرجت من منابر إسرائيل دعوات، بالمناسبة، إلى أن ينسحب مشروع “الترانسفير” الغزّي باتجاه مصر على ذلك القديم-الجديد الذي ما برح يحلم بـ “ترانسفير” ينقل أهل الضفة الغربية إلى “الوطن البديل” الأردن. فكان غضب مصريّ أردنيّ مشترك. وكانت قمم متبادلة أنتجت موقفاً صلباً حازماً في رفض هذا السيناريو العدميّ. قال الرئيس المصري: “لن نسمح بتصفية القضية الفلسطينية، وبكلّ الأحوال ليس على حساب مصر”. وقال الملك عبد الله الثاني إنّ “تهجير الفلسطينيين إلى مصر أو الأردن خطّ أحمر”.
لماذا حرّض مشعل العشائر؟
يكشف مصدر أردنيّ مطّلع لنا أنّه “منذ بداية الحرب حاول خالد مشعل وغيره تحريض العشائر الحدودية ودعوتها للتوجّه نحو الحدود الأردنية الفلسطينية”. قالت الحكومة إنّ لهذه مناطق قواعد اشتباك عسكرية، وإنّ من غير المسموح لأحد أن يوجّه رسالة للعشائر الأردنية. وقد ردّ رئيس الوزراء وعدد من النواب على دعوات “حماس”، لكنّهم عادوا الآن لتجديد هذه الدعوات على لسان ثلاث قيادات لحماس بعد زيارةٍ لطهران.
يضيف المصدر أنّ هذا الأمر يقلق الأردنيين، ومن “غير المقبول أن يتمّ التدخّل في شؤون علاقة مجتمع ودولة وقيادة بأبنائها، وخصوصاً أنّنا دولة عربية شقيقة أيضاً”. ويتابع كلامه بالقول إنّ “الأردن عاقل ومتّزن ومحترم. وكانت لدينا مشكلة مع “حماس” قديماً، وخرجوا واكتفينا بهذا الأمر. لكنّ تدخّلات من هذا النوع تسيء وتوتّر الوضع”.
لم تخفِ إسرائيل إثر عملية “طوفان الأقصى” خططاً داهمة للتخلّص من المسألة الفلسطينية
يسلّط المصدر المجهر على الخصوصية الوطنية الأردنية الفلسطينية، وعلى خصوصية المجتمع والعلاقات التاريخية إبّان فترة الوحدة الأردنية الفلسطينية. ويوجّه عتباً سببه إغفال جهود الأردن وما قدّمه منذ بدء الحرب. ويستغرب أن “تشتدّ حملة حماس ضدّ الأردن كلّما مارست عمّان ضغوطاً لتسهيل وصول المصلّين إلى القدس وكلّما نجحنا في ذلك، وكأنّ هناك من لا يريد تحقيق أيّ مكاسب لأهل القدس للوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه”.
في الأردن من يعتبر أنّ “حماس” تريد العودة إلى الأردن وممارسة أنشطتها مستفيدة من حاضنة توفّرها جماعة الإخوان المسلمين، وأنّ الحركة تسعى إلى فرض أجندتها على حكومة البلاد. وفي الأمر غمز من قناة وجود “حماس” في لبنان مستفيدة من رعاية الحزب ومن حواضن “الجماعة الإسلامية”، أي جماعة “إخوان لبنان”.
إقرأ أيضاً: تكنوقراط في رام الله.. وواشنطن ترعى “تأهيل” السّلطة
ذكّر وزير الداخلية الأردني الأسبق حسين المجالي خالد مشعل أنّ الملك الراحل حسين بن طلال رهن عملية السلام مع إسرائيل بتسلّم الترياق المضادّ للسمّ الذي استُخدم لمحاولة اغتيال مشعل في عمّان في 25 أيلول 1997، وهو ما أنقذ حياته. وفيما تنشغل عواصم العرب وعواصم الغرب بخطط اليوم التالي للحرب في غزّة يتساءل الأردنيون عمّا إذا كانت حماس تُعِدّ “طوفاناً” فاشلاً في بلادهم.
لمتابعة الكاتب على X: