بعد خطاب التخوين لدولة الإمارات العربية المتحدة وإسهاب فريق الممانعة وجمهورها بإدانة العلاقات الخليجية مع إسرائيل، وتحديداً الإمارات، شكّلت زيارة مسؤول التنسيق والارتباط في الحزب وفيق صفا لأبو ظبي محطّة مفصلية في مسار انطلق في المنطقة لن يكون الحزب بعيداً عنه. فبعد كلّ السردية التي بناها في أكثر من محطة، يجد الحزب نفسه اليوم أمام مفترق طرق. زيارة الإمارات مقدّمة فماذا بعدها؟
في العام الـ42 لولادته، يختبر الحزب مستوى غير مألوف من القتال. في سردية كيانه محطات مفصليّة. أعلن نفسه في الثمانينيات مقاومة وحيدة في تصفيته للفصائل المقاومة الأخرى في جنوب لبنان، ثمّ كرّس وجوده في حربه مع حركة أمل فصيلاً شيعياً على الأرض. أما في التسعينيات، رسّخ قوّته بصفته محرّراً لجنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. في عام 2006، كرّس انتصاره وفق معادلة “توازن الردع” بصموده 33 يوماً في الحرب. في سوريا، اكتسب مقاتلو الحزب لنحو عقد من الزمن أساليب قتالية جديدة وفّرها لهم قتال من نوع آخر على الأرض السورية. تجربته في أكثر من دولة عربية ودخوله في حروب الأنظمة جعلا من الحزب حزباً أكبر من بلاده. فهو صاحب نفوذ في لبنان وسوريا والعراق واليمن من جهة، ومصنّف منظمة إرهابية في أنظمة الخليج وأوروبا وأميركا من جهة أخرى.
وحدها أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 خرقت سياق السردية المتصاعدة. فمنذ الثامن من تشرين الأوّل الماضي، يخوض الحزب حرباً هي الأولى من نوعها: أوّلاً في ارتباطها المباشر بحرب مصيرية للقضية الفلسطينية، وثانياً في تعبيدها الطريق لمفاوضات علنية ومستترة مع جوار إقليمي ودولي، وسط غموض يلفّ نهايتها وانعكاساتها عليه.
هو اليوم في الزاوية عالق بين القضية التي يحملها مبرّراً لسلاحه، وبين بيئة شعبية انقلبت عليه في لبنان والدول العربية.
يجد الحزب نفسه اليوم أمام مفترق طرق. زيارة الإمارات مقدّمة فماذا بعدها؟
بعدما خسر رهانه في “حرب إسناد غزة” على إعادة استقطاب “شرعيّته” في الشارع السنّي العربي ومحو “آثامه” في السنوات العشر الأولى تحت عنوان فلسطين، عاد وخسر في الداخل الشارع المسيحي الذي أعطاه عباءة “الشرعية” في تكريس انتصاراته الخارجية والداخلية. انطلاقاً من هذه السردية، وانطلاقاً من موقع الحزب الحالي، قد يكون مفتاح الحلّ في الجبهتين، الداخلية والخارجية، عاملاً وحيداً: “استعادة الشرعية الدولية والمحلّية”.
الإمارات أوّلاً ..
قبل أن تحطّ طائرة الرئيس السوري بشار الأسد في جدّة للمشاركة في القمّة العربية بدعوة من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، كان الأسد قد حطّ أوّلاً في الإمارات في زيارة كسرت طوق سوريا يومها.
عبّدت أبو ظبي الطريق للأسد تزامناً مع حوار سعودي إيراني حول المنطقة. فجاء البيان الختامي للقمّة العربية مغايراً لسابقه في بعض التعابير المتعلّقة بإيران. أمّا سوريا فشاركت على الرغم من التباين الخليجي حول عودتها. ولكنّ العودة جاءت “مشروطة” في الشكل بالإصلاحات، وفي العمق بتموضع سوريا على خريطة المنطقة.
اليوم وقع الدور على الحزب. سرّعت في ذلك أحداث غزة. يمضي القطار سريعاً وعلى الجميع التقاطه. المملكة تتقدّم القطار، بتفاهم مع إيران. أعطت طهران الضوء الأخضر لبدء المفاوضات الجدّية مع الحزب بإعلانها رفض أيّ حرب كبرى. وعليه، لم تكن دعوة الحزب إلى الإمارات تفصيلاً. فهل بدأ التفاوض؟ وعلى ماذا؟
لا وقت لحياكة “العجميّ“
يصف أهل السياسة المدرسة الإيرانية بمدرسة الصبر. هي براغماتية بامتياز عكس الانطباع السائد عنها. فيقولون إنهم “قوم يمضون عشر سنوات في حياكة سجّادة عجميّة.. فكيف الحال في حياكة خريطة نفوذهم”.
يقول مصدر دبلوماسي إنّ “تفاوض الأميركيين مع الحزب قد يحلّ كلّ شيء بلمح البصر. إلا أنّ هذا لن يحصل في المدى المنظور
الحزب وُلد من رحم المدرسة الخمينيّة. وهو صاحب صبر عميق. ولكن ما لم يكن في حسبانه أن تدفع حماس في عمليّتها التشرينيّة قطار المفاوضات بسرعة لا تتلاءم مع صبر حياكة السجّاد العجمي. وبالتالي هو ملزم بالاختيار بين ما سمّاه نتنياهو “المرساة الصلبة”، وهي الحرب التي سيشنّها على لبنان كما سبق أن أعلن أكثر من مسؤول إسرائيلي، وبين الانطلاق بمفاوضات “مشروطة” أوّلاً بعودته إلى “الحاضنة العربية”، وثانياً باستعادة شرعية تسقطه من لائحة المنظّمات الإرهابية أوّلاً خليجياً ثمّ دوليّاً.
تتحدّث مصادر مطّلعة على موقف الحزب صراحة عن أنّ الحزب منفتح على حسن العلاقة مع الخليج. فقد بدأ مع الإمارات، ولن تكون سوى مقدّمة لدول أخرى، أهمّها المملكة العربية السعودية. إنّما الأهمّ: هل الحزب جاهز لتنفيذ شروط اكتسابه “شرعية الاعتراف الدولي به مقرّراً”؟
ما هو الثمن؟
تعمل مصادر دبلوماسية على صياغة اليوم التالي بعد 7 أكتوبر. وهو لن يقتصر على غزة والقضية الفلسطينية. بل يطال خريطة المنطقة، وتحديداً كلّ ما يتعلّق بدول الطوق لإسرائيل. وبالتالي فإنّ لبنان معنيّ بشكل مباشر، سيما أنّه يشكّل خطراً على الجليل الأعلى. تتحدّث مصادر دبلوماسية مطّلعة عن حاجة الحزب إلى المبادرة من جهة، والتجاوب مع المبادرات من جهة أخرى، وحاجته الماسّة إلى حسم خياراته في الشروط الموضوعة على الطاولة وأهمّها إعادة الصواريخ الذكيّة التي يمتلكها إلى من سلّمه إيّاها. بالإضافة إلى تنفيذ اتفاق حدودي يشبه اتفاق الحدود البحرية لتحويل المنطقة إلى منطقة آمنة لأنّ أقلّ من ذلك لن يكفي لاستكمال دورة الانفتاح وإنضاج المشهد المقبل.
تتحدّث مصادر مطّلعة على موقف الحزب صراحة عن أنّ الحزب منفتح على حسن العلاقة مع الخليج. فقد بدأ مع الإمارات، ولن تكون سوى مقدّمة لدول أخرى
تضيف المصادر أنّ ذلك لا يعني إعطاءه وكالة القرار بالبلد ولا رئاسته بالمعنى التقليدي، بل يعطيه رخصة شرعية دولية لنفوذه الموجود أصلاً بالقوّة، على أن تعالج الإشكاليات المطروحة حوله في الداخل اللبناني.
هل تفاوض الولايات المتّحدة الحزب مباشرة؟
يقول مصدر دبلوماسي إنّ “تفاوض الأميركيين مع الحزب قد يحلّ كلّ شيء بلمح البصر. إلا أنّ هذا لن يحصل في المدى المنظور لأنّه في المفهوم الأميركي لم يحن الوقت بعد لذلك. لا تزال الطريق طويلة ومشروطة. وإلى ذلك الحين فإنّ لبنان عالق في نفق داخل نفق. وكثرة الأنفاق تكاد تكون خانقة إلى حدّ انقطاع النفس”.
إقرأ أيضاً: لبنان أمام خيارين: الحرب.. أو جنوب الليطاني “معزول السلاح”
أمّا الحزب فهو يدرك حتماً أنّه أمام محطّة مفصلية: إمّا الالتحاق بقطار المنطقة الذي سبق أن التحقت به إيران، وإمّا سيخوض آخر حروبه.
لمتابعة الكاتب على X: