واجه الناشط السياسي وأستاذ التاريخ بالجامعة الأميركية مكرم رباح ملاحقات من الجهات الأمنيّة والقضائية بسبب معارضته للحزب وسلاحه. وحالة الدكتور مكرم ليست وحيدة أو فريدة. فالناشطون مهدّدون دائماً من جانب فريق “المقاومة”: أفما تزال المعارضة ممكنة؟
أعرف الدكتور مكرم رباح من أكثر من عشر سنوات. كنت أتلاقى معه خلال عملي كمحاضر في الجامعة الأميركية بمكتب أستاذه الراحل عبد الرحيم أبو حسين. وازداد تقديري له بعد قراءتي لأطروحته: “النزاع على جبل لبنان – الذاكرة الجماعية وحرب الجبل”. هو كثير الظهور في الإعلام، آراؤه السياسية معروفة. معارضٌ حاسم للحزب بسبب سلاحه وتوريطه لبنان في الحروب. يحمّل الحزب مسؤولية تعطيل انتخابات الرئاسة، ومسؤولية شذوذات كثيرة يعتبره المتسبِّب بها أو صانعها. هو أقرب في السياسة إلى 14 آذار وإن لم يوافقهم في كلّ شيء.
آن أوان قمع رباح
في إحدى المقابلات قال كلاماً اعتبره الحزبيون مسيئاً لهم. ولا شكّ أنّهم يتابعونه من سنوات، وقد اختاروا هذه المرّة أنّه آن الأوان لاستدعائه وسؤاله من جانب الجهات الأمنيّة التي يعتبرونها تابعةً لهم ساعة للأمن العامّ أو النيابة العامّة أو أمن ماذا لا أعرف. قال مكرم إنّهم سألوه أسئلة سياسية، والقضاء لا شأن له بذلك. وختموا التحقيق بمطالبته بتسليم هاتفه للفحص لأنّه متّهم بالعمالة لإسرائيل ورفض طلبهم.
خرج مكرم من عند الأجهزة وهو في حالة غضبٍ شديدٍ وإحساس بالإهانة. وساءه وهو ابن قاضٍ أن يصل الأمر بالقضاء اللبناني إلى هذا الدرَك من الاستلشاق والتبعيّة! ولذلك في مقابلاته ما أبقى في جعبته شيئاً إلّا وقاله عن سلوك الحزب وعن علاقاته بالأميركيين وبالذئب الضاحك هوكستين… إلخ. وحالة مكرم ليست وحيدة، بل هناك عشرات الحالات لمثقّفين وكتّاب وصحافيين وإعلاميين. والتهمة دائماً العداء للمقاومة والعمالة لإسرائيل.
واجه الناشط السياسي وأستاذ التاريخ بالجامعة الأميركية مكرم رباح ملاحقات من الجهات الأمنيّة والقضائية بسبب معارضته للحزب
لكنّ هناك اختلافاً في التفاصيل، واختلافاً في العواقب. فعندما أرادوا إرهاب الدكتور فارس سعَيد قدّموا شكوى ضدّه. وفي حالة كحالة السيّد علي الأمين قبل سنوات اتّهموه بإثارة النعرات الطائفية. وفي حالات الذين هم أقلّ أهمّية في نظرهم تكون العواقب مزعجة مثل السجن لشهورٍ أو أعوام.
أمّا الأخطر مثل لقمان سليم فالمصائر معروفة. المهمّ أنّهم استدعوا مكرم رباح مباشرةً بدون شكوى من أحد، بحجّة أنّ الأجهزة العظيمة هي التي اكتشفت عمالته وحفاظاً على أمن الدولة استدعته.
أما تزال المعارضة ممكنة؟
الجهات الحزبية والأمنيّة ليست غبيّة. هم لا يأبهون للشتائم والتهم الكثيفة. لكنّهم ليسوا مستعدّين لسماع أيّ كلام جدّي ولو على سبيل النصيحة. وقد أسكتوا المئات من الناس بوسائل شتّى، في حين دفعوا آخرين إلى الهجرة والاغتراب. قال لي أحد أنصار الحزب المسلَّح: مكرم رباح يبالغ من أجل الشهرة! فسألته: إذا كان الأمر كذلك فلماذا تحملونه على محمل الجدّ، وتستدعونه إلى التحقيق؟!
الواقع أنّ هناك عدّة مسائل ينبغي البحث فيها هنا أو في هذا السياق. فهل صحيحٌ أنّ لبنان يعاني من خطرٍ داهم؟ أنا أرى أنّ هذا صحيح. بلد فيه جيشان، ويتعرّض لحرب شعواء، وجهاته السياسية غير عاملة وغير فاعلة. فالأمر متروك لزعيم الحزب المسلّح. وأموال المودعين محتجزة والأزمة الاقتصادية مستحكمة. وهناك عجز دائم عن الإصلاح. والجهات الأمنيّة والسياسية والقضائية تضاربت بحيث ما عاد هناك إمكان للتحقيق في انفجار المرفأ. والموظّفون الكبار والقضاة كلٌّ منهم تابع لزعيم طائفته أو مستتبَع.
ما قاله مكرم رباح ليس رأيه وحده، بل هو رأي جهات نافذة وكبيرة في لبنان والخارج. ولذلك ينبغي استدعاؤه وسؤاله عن رأيه قبل أن يغادر مثل ألوف غيره. لدى الكثيرين إحساس عميق بأنّ الزمام انفلت تماماً والسلاح يتحكّم ولا مُراجع أو مُحاسب. وهناك مصائر أكثر من خمسة ملايين إنسان على المحكّ. ما بقي أحد في العالم من محبّي لبنان القديم إلّا وسأل وترجّى وناشد. بيد أنّ الزعيم المسلّح لا يستجيب، ولا يستجيب كذلك أهل عصابات الفساد والمخدّرات فيما بين لبنان وسورية.
في إحدى المقابلات قال كلاماً اعتبره الحزبيون مسيئاً لهم. ولا شكّ أنّهم يتابعونه من سنوات
الانطلاق نحو الهاوية
ما عادت المسألة مسألة رأي وآخر مضادّ. هناك شبه إجماع على أنّ العربة تسير في سرعةٍ متزايدة نحو الهاوية. ولذلك من حقّ مكرم رباح وغيره الانزعاج والشعور بالخطر ومحاولة تجنّب الأسوأ.
الحقّ أنّ العقلية الانتحارية يتصاعد أنصارها ويتكاثرون. ولذلك ليس ضرورياً أن يسلّط الحزب القضاء التابع له، بل هناك متطوّعون كثيرون يتصدّون أحياناً بالقوّة لأصحاب الرأي الآخر. وتهمة التعامل مع إسرائيل سهلة سهولة الماء الزلال. عشرات الشبّان يسقطون في جنوب لبنان والحجّة التضامن مع غزة. ولا شكّ أنّ الحماسيّين ليسوا أكثر حكمة من الحزب اللبناني المسلّح، بل هم يطالبون العرب والمسلمين بالزحف نحو القدس والأقصى. وهكذا محور المقاومة شاسع الجنبات، ولا تهمّ الأوطان والبشر في سبيل القضية.
عندما أعلن الدكتور فارس سعَيد عن جبهة لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان بعد نهاد المشنوق اعتبره كثيرون منّا حالماً: هدف ضخم وقدرات ضئيلة! لكن عندما شهدت أخيراً على التلفزيون مسرحيّةً شارك فيها مسؤول إيراني وزعيم الحزب المسلّح: الإيراني لا يريد الحرب الشاملة، وزعيم الحزب المسلّح يقول له كلاماً معناه: لا تخَف، سنقاتل وحدنا! سألت نفسي: ماذا يقول هؤلاء، فهم يتحدّثون كأنّما هم يملكون الأرض والإنسان، بينما في الحقيقة ليسوا أكثر من ميليشيا مهما بلغ جبروتها؟! لم تبالغ يا فارس، بل من بالغ هم الذين وضعوا البلاد في هذا الموضع.
إقرأ أيضاً: المقاومة في زمانها الجديد
لن أكذب عليك يا مكرم. أنصارك ليسوا كثراً ليس لأنّهم لا يعرفون الحقيقة، بل لأنّهم تعبوا أو يئسوا أو غادروا ولا أعرف إذا كانت المعارضة ما تزال ممكنة. فليس الذين يواجهونك هم المسلّحين فقط، بل والجمهور الذي يريد التحرير الشامل هو أيضاً!
لمتابعة الكاتب على X: