باتت معركة رفح “أمّ المعارك” في سياق حرب غزّة. القرار بدخول هذا المعقل الفلسطيني الأخير في القطاع، من عدمه، من شأنه أن يحسم الكثير بخصوص مستقبل الحرب بين إسرائيل وحماس، وقد يغيّر المشهد الجيوسياسي، وتوازنات القوّة في المنطقة.
خمسة أسباب رئيسية قد تدفع إسرائيل إلى اجتياح رفح، على الرغم من التحذيرات الأميركية شبه اليومية لبنيامين نتنياهو.
1- الأهمّيّة الاستراتيجيّة:
يُعتبر معبر رفح بوّابة رئيسية لحركة حماس إلى العالم الخارجي. تقول إسرائيل إنّ الموارد اللازمة لتسليح حماس وصيانة ترسانتها وحاجيّاتها الميدانية الأخرى. تتدفّق عبره من خلال شبكات تهريب معقّدة تنشط في صحراء النقب. وعليه تعدّ السيطرة على رفح المدينة مدخلاً رئيسياً لتدمير قدرات حماس اللوجستية والعمليّاتيّة.
2- الهدف العسكريّ:
مع تفكيك 14 كتيبة من أصل 18 كتيبة تشكّل الهيكل العسكري لحماس، تظلّ رفح واحدة من آخر معاقل الوجود العسكري المنظّم للحركة. وعليه ترى إسرائيل أنّ احتلال رفح يشكّل ضرورة أساسية لإلحاق “الهزيمة الحاسمة” بحماس ومنعها من إعادة تنظيم صفوفها. وهو العنوان الذي رفعه نتنياهو كهدف لحربه ومعيار للهزيمة والنصر.
3- الضغط السياسيّ الداخليّ:
على الرغم من سيل الانتقادات التي يتعرّض لها نتنياهو داخليّاً. إلا أنّ أغلبية الرأي العامّ الإسرائيلي تدعم المضيّ بالإجراءات التي من شأنها تدمير حماس وإنهاء خطرها وإعادة الرهائن. في هذا السياق كشف استطلاع للرأي أُجري لمصلحة “القناة 12” الإسرائيلية في شباط الفائت أنّ 63% من الإسرائيليين يعارضون بشدّة قيام دولة فلسطينية، تحت أيّ ظرف من الظروف، وأنّ 73% يعارضون عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزّة. وتفيد استطلاعات أخرى أُجريت مطلع العام أنّ 72% يعارضون إيصال المساعدات إلى الفلسطينيين حتى يتمّ إطلاق سراح جميع الرهائن.
خمسة أسباب رئيسية قد تدفع إسرائيل إلى اجتياح رفح، على الرغم من التحذيرات الأميركية شبه اليومية لبنيامين نتنياهو
يؤكّد ذلك سمات التشدّد التي باتت تطغى على الرأي العامّ في إسرائيل. لا سيما بعد صدمة هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول). يحاول نتنياهو ركوب موجة المشاعر المتّقدة هذه للتعويض عن الرفض الشعبي له شخصياً وتحميله مسؤولية الفشل في منع هجوم حماس من الحدوث.
4- استقلاليّة إسرائيل وعلاقاتها الدوليّة
يوظّف نتنياهو موقفه الثابت من ضرورة دخول رفح، ومقاومته العلنية للتحذيرات الأميركية بشأن عدم فعل ذلك، لتصوير نفسه كزعيم حازم يضع أولوية أمن إسرائيل فوق الضغوط الدبلوماسية. يصنع نتنياهو لنفسه، من خلال الاصطدام بإدارة بايدن، صورة القائد المتفاني في الدفاع عن السيادة الوطنية. ويعزّز موقعه كبطل قوميّ مخلص، ويفاخر بأنّه السياسي الإسرائيلي الوحيد الذي يجيد التعامل مع واشنطن وإدارة العلاقة المعقّدة معها. ولئن لم يجرؤ حتى أعتى خصومه على تبنّي الضغوط الأميركية عليه. وجد نتنياهو في الإصرار على معركة رفح فرصة ليركب موجة الشعبوية القومية والأمنيّة داخل إسرائيل.
5- الحسابات الجيوسياسيّة
يرى نتنياهو في عملية رفح فرصة لتسليط الضوء على العلاقة الاستراتيجية بين إسرائيل ومصر وتعزيزها. فمن خلال الحسم في رفح، لا تعالج إسرائيل مخاوفها الأمنيّة المباشرة في ما يتعلّق بحماس فحسب، بل تؤكّد أيضاً أهمّية التعاون الإسرائيلي المصري في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي. ويراهن نتنياهو على أن تدفع هذه العملية مصر إلى تبنّي موقف أكثر وضوحاً بشأن المشتركات الاستراتيجية مع إسرائيل. لا سيما في ما يتعلّق بالتعاون الأمنيّ وجهود مكافحة الإرهاب. إن فَرَضَ نتنياهو تعاوناً ناجحاً على جبهة رفح مع مصر فسيكون ذلك بمنزلة شهادة على متانة العلاقات الإسرائيلية المصرية. وسيعزّز موقع إسرائيل الاستراتيجي داخل الهيكل الأمنيّ الإقليمي.
رفح والرسائل المتعددة
إلى ذلك، سيبعث اجتياح رفح برسائل واضحة إلى كلّ اللاعبين الإقليميين بشأن التزام إسرائيل بأمنها وقدرتها على العمل بشكل وثيق مع جيرانها الرئيسيين مثل مصر، بما يعزّز الدور الاستراتيجي الإسرائيلي وفاعليّة شراكاته في الشرق الأوسط.
على الرغم من سيل الانتقادات التي يتعرّض لها نتنياهو داخليّاً، إلا أنّ أغلبية الرأي العامّ الإسرائيلي تدعم المضيّ بالإجراءات التي من شأنها تدمير حماس
بيد أنّ هذه المحدّدات لقرار إسرائيل بضرورة اجتياح رفح، تصطدم بتحدّيات معقّدة. تثير هذه العملية مخاوف إنسانية عميقة في ظلّ اكتظاظ رفح بالسكّان بسبب نزوح معظم أهالي شمال ووسط القطاع إلى هذا المربّع الأخير. وفي غياب خطط عمليّة لنقل سكّان رفح إلى مناطق أخرى تمهيداً للاجتياح. يُخشى أن يؤدّي الهجوم إلى حمّام دم أسوأ ممّا هو حاصل حاليّاً.
الأهمّ أنّ عمليّة رفح ستسدّد ضربة قاصمة لجهود واشنطن السياسية لانتزاع حلّ عبر المفاوضات، تعتقد إدارة بايدن أنّه السبيل الوحيد للوصول إلى وقف لإطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن.
وعليه، وعلى الرغم من وفرة السجالات حول رفح. يبقى الجدول الزمني للعمليّة فيها، رهناً بتطوّرات الدبلوماسية الدولية، ومفاوضات وقف إطلاق النار الجارية، والتعقيدات اللوجستية لإدارة عمليّة إنسانية وعسكرية في وقت واحد.
ولئن أدّت هذه العناصر إلى الاستنتاج بأنّ قراراً فوريّاً بشأن اجتياح رفح يبدو مؤجّلاً. إلّا أنّ حكومة نتنياهو تراهن على تراكم العوامل التي ستسمح في النهاية بإطلاق صفّارة الاجتياح.
نتنياهو يراقب
إذا ما تعثّرت أو فشلت الجهود الدبلوماسية، أو استمرّ تدهور وضع الرهائن، فستجد إسرائيل نفسها مضطرّة إلى القيام بعمل عسكري لتحقيق أهدافها. ومن شأن ذلك أن يصعّد حدّة تصاعد المطالب الشعبية بإنهاء التهديد الذي تشكّله حماس. وقد يشكّل ذلك غطاءً شعبيّاً لعمل عسكريّ حاسم.
يوظّف نتنياهو موقفه الثابت من ضرورة دخول رفح، ومقاومته العلنية للتحذيرات الأميركية بشأن عدم فعل ذلك، لتصوير نفسه كزعيم حازم
كما أنّ نتنياهو يتحيّن أيّ فرصة استراتيجية تمثّل تحوّلاً في المشهد السياسي الإقليمي أو الدولي، ويمكنها أن تقلّل من حدّة ردّ الفعل ضدّ إسرائيل ليعلن هجومه. تشمل حساباته هذه حدوث تغيير ما في مستويات الدعم الأميركي لإسرائيل نتيجة مناخ الانتخابات الرئاسية أو ما بعدها، أو تغييرات في موقف اللاعبين الدوليين والإقليميين الرئيسيين.
في الأثناء تنشط الاستخبارات الإسرائيلية لتوفير نوافذ معلوماتية تتعلّق بمواقع قادة حماس الرئيسيين داخل رفح. بما يبرّر تحرّكاً عسكرياً فورياً يوفّر فرصة تحقيق ضربات استراتيجية تستفيد من الإمكانات التكنولوجية المتوافرة لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين.
إقرأ أيضاً: هل نحن عنصريّون أيضاً؟
والحال، يبدو أنّ القرار بتنفيذ عملية عسكرية في رفح يشبه السير في متاهة معقّدة من الاعتبارات الاستراتيجية والعسكرية والإنسانية والسياسية. بيد أنّ مزيجاً من كلّ هذه الضغوط الداخلية والخارجية يُرجَّح أن يؤدّي في النهاية إلى هجوم إسرائيلي في رفح.
لمتابعة الكاتب على X: