حسناً فعل نيكولاس كريستوف حين خصّص زاويته في صحيفة “نيويورك تايمز” للحديث عن ازدواج المعايير الغربية في التعاطي مع حرب غزّة. ومقارنتها بمواقف الغرب، وعلى رأسه واشنطن، من حروب أخرى.
أضاء نيكولاس كريستوف على أنّ هويّة الجهة المتورّطة في فظاعات ما، تحدّد في الواقع طبيعة الموقف الذي تتّخذه واشنطن منها.
فها هي واشنطن تدعم الحملات العسكرية الإسرائيلية وتزوّد تل أبيب بالحماية الدبلوماسية في الأمم المتحدة. على الرغم من الاعتراف بالأثر القاتل للأعمال العسكرية الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك آلاف الأطفال. وقارن نيكولاس كريستوف هذا الموقف بالإدانة الأميركية الصارمة لدول أخرى، مثل روسيا أو الصين أو فنزويلا، بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان. مشيراً إلى ازدواجية المعايير في تعامل الولايات المتحدة مع مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.
في المقابل انتقد المقال إهمال الرأي العامّ الغربي. لا سيما الحركات الطلابية والدوائر الأكاديمية. لأزمات لا تقلّ خطورة وقسوة لناحية الأثمان البشرية، كالوضع المأساوي في السودان. لاحظ نيكولاس كريستوف. بالمقارنة مع نجومية غزة. النقص الحادّ في التركيز على ما سمّته الأمم المتحدة “موجة الفظائع” التي تصيب أطفال السودان. الذين نزح منهم أكثر من ثلاثة ملايين، وهو عدد أكبر من إجمالي سكّان غزة!
الغضب الانتقائيّ
يقدّم هذا الطرح فحصاً دقيقاً لما يمكن تسميته بالغضب الانتقائي. وينطوي على تشكيك في المعايير التي يتمّ من خلالها تسليط الضوء على بعض انتهاكات حقوق الإنسان بينما تظلّ انتهاكات أخرى في الظلّ. مدفوعةً على الدوام بانحيازات السياسة ووسائل الإعلام الدولية.
علامَ سنعثر إن وجّهنا أنظارنا إلى داخلنا وأجرينا فحصاً مشابهاً لمعاييرنا المزدوجة كعرب ونظرنا من خلال عدسات أزماتنا وحروبنا وأهوالنا وفظائعنا؟
الأصوات العالية ضدّ الظلم اللاحق بالفلسطينيين مشروعة. وصداها الذي يتردّد عبر مواقع التواصل الاجتماعي بحماسة غير مسبوقة، يؤكد على إحساس جمعيّ بالواجب تجاه القضية الفلسطينية. بيد أنّ هذه الأصوات، في المقلب الآخر، تلقي الضوء على ازدواج معاييرنا أيضاً حيال مآسٍ إقليمية أخرى. أبرزها الصراع السوري، أو تبعات الحرب الأهلية في السودان.
أضاء نيكولاس كريستوف على أنّ هويّة الجهة المتورّطة في فظاعات ما، تحدّد في الواقع طبيعة الموقف الذي تتّخذه واشنطن منها
ازدواجيّة المعايير المجتمعيّة
لا شيء ممّا أثارته حملة القمع الوحشية التي مارسها النظام السوري ضدّ مواطنيه، وصل إلى ما وصل إليه موقف الرأي العامّ العربي من غزة. لا في الداخل ولا عبر عرب المهاجر، على الرغم ممّا اتّسمت به سياسات النظام السوري من انتهاكات وتدمير وتهجير أفظع ممّا يحصل اليوم.
حتى الموقف المعادي لأميركا بسبب موقفها الداعم لإسرائيل. أكان في العالم العربي، أم عبر العرب الأميركيين. لم نرَ مثيلاً له حين قرّرت إدارة الرئيس باراك أوباما أن تغضّ الطرف عن قصف السوريين بالأسلحة الكيمياوية!!!
ليس هذا التفاوت مجرّد مسألة تفصيل سياسي. بل هو انعكاس للشبكة المعقّدة من التحالفات الجيوسياسية، والانقسامات الطائفية، والسياقات التاريخية التي تعرِّف منطقة الشرق الأوسط. لقد تمكّن نظام الأسد، مدعوماً بحلفاء أقوياء ومعلنين وتعقيدات الديناميكيات الطائفية الداخلية والخارجية، من إدارة صراعه مع شعبه وكسره في نهاية المطاف.
شكّل مثلاً دخول إيران ثمّ روسيا على خطّ الحرب السورية عنصراً مهمّاً في إعادة تشكيل موقف الحكومات العربية من أزمة سوريا. وذلك في ضوء حساباتها الخاصة بشأن الحدود التي تريد الذهاب إليها في معاداة هاتين الدولتين.
في المقابل، فإنّ وضع إسرائيل الفريد كدولة غير عربية، وذات تاريخ معقّد مع جيرانها العرب والفلسطينيين غالباً ما يؤدّي إلى ردود فعل سهلة وسريعة ومكثّفة. وتلعب وسائل الإعلام في هذا السياق أدواراً حاسمة في صناعة الحماسة والشغف بنسب متفاوتة. تعلو كثيراً في الموضوع الفلسطيني وتنخفض حين يتعلّق الأمر بالصراعات الأخرى التي لا تحوز الأهمّية التاريخية والرمزية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
كما أنّ العنصر المذهبي. الذي اتّخذه الصراع السوري. أجّج الكثير من المخاوف لدى الحكومات العربية من أن يتحوّل الصراع مطيّة لإحياء التيّارات الإسلامية التي تتحدّى شرعية الأنظمة في أكثر من دولة.
أضف أنّ للتوتّرات الطائفية هذه شأنها في التأثير على مستويات التضامن والإدانة في العالم الإسلامي. في حين أنّ ما يسمّى “وحدة الموقف الإسلامي” من إسرائيل، لا سيما في حالات الحرب والقتل، تضيّق هوامش الاختلاف السياسي في النظر إلى الأزمة الفلسطينية.
دعوة كريستوف المجتمع الدولي إلى التفكير في معاييره المزدوجة، هي دعوة لنا أيضاً إلى أن نواجه معاييرنا المزدوجة
مقاربة العنصريّة
بيد أنّ ثمّة ما هو أبعد من هذه الحسابات الواقعية للدول والحكومات والشعوب. أكاد أقول إنّ ثمّة ما يقارب العنصرية، عندنا كما عند غيرنا في العالم، حين يخضع الموقف السياسي والأخلاقي والقيَمي، لحسابات الهويّة والدين واللغة والعرق وغيرها.
فهل الظالم العربي أقلّ ظلماً من الظالم الإسرائيلي؟ وهل الظالم الأبيض أقلّ ظلماً من الظالم العالمثالثيّ؟
هذه أسئلة حارّة لا يسعنا إلا طرحها في سياق مآسي منطقتنا، بمثل ما يجرؤ على طرحها أناس مثل نيكولاس كريستوف بخصوص بيئته الثقافية والسياسية.
صحيح أنّ القضية الفلسطينية، بجذورها التاريخية العميقة وتجسيدها للنضال الحقيقي ضدّ الظلم والاحتلال، قادرة على صناعة كتلة شعورية عربية تتجاوز الحدود الوطنية. إلا أنّ هذه التعبئة، على الرغم من قوّتها وشرعيّتها، تسلّط الضوء على التعامل الانتقائي مع الأخلاق والقيم وأولوية الإنسان. فلماذا يبدو السخط والغضب في العالم العربي متذبذباً عندما يشترك الظالم مع المظلوم في نفس اللغة، أو الثقافة، أو الدين؟ ولماذا لم تصدر من الفلسطينيين أوّلاً إدانات أكثر وضوحاً وشجاعة لبشاعات 7 أكتوبر وانتظرنا حتى مرّت عليها حماس في وثيقتها مرور الكرام؟
ثمّ ألم يكن موقف حركة حماس نفسها، كواحدة من عناوين الصراع مع الظلم، متذبذباً حيال المذبحة السورية؟ ألم تختلف مع النظام على استحياء وتتصالح معه بإسفاف وصل إلى حدّ تنصيب قاسم سليماني “شهيد القدس”، وهو قائد المذبحة بحقّ السوريين؟
إقرأ أيضاً: مخاوف من خسارة ورقة الرهائن قبل اقتحام رفح؟
تتطلّب هذه التناقضات إعادة تقويم بوصلتنا الأخلاقية الجماعية، وتلزمنا بالتأمّل الشجاع في خلفيّات وجذور الغضب الانتقائي الذي ميّز استجاباتنا للمحن العديدة في منطقتنا.
دعوة نيكولاس كريستوف المجتمع الدولي إلى التفكير في معاييره المزدوجة، هي دعوة لنا أيضاً إلى أن نواجه معاييرنا المزدوجة. بغية صناعة موقف مبدئي يدافع عن حقوق وكرامة جميع الأفراد، كطريق وحيد نحو شرق أوسط عادل ومسالم.
لمتابعة الكاتب على X: