لا حاجة إلى افتعال ضجّة انطلاقاً من الخلاف المضحك بين الحزب والتيّار العونيّ. لا تعني الإثارة المفتعلة لهذا الخلاف سوى محاولة أخرى للتذاكي على المسيحيين خصوصاً، واللبنانيين عموماً. في حين لا قطيعة تامّة بين الجانبين بعدما سدّ ما بقي من التيّار العوني كلّ الأبواب في وجه القرار الوطني اللبناني الأكثريّ الرافض لسلاح الحزب. الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوريّ” الإيراني.
ما على الطاولة حاليّاً رأس لبنان ومصيره، وليس رأس “التيّار العوني” ومعه رأس جبران باسيل الساعي إلى إنقاذ مستقبله بأيّ ثمن.
لا يمكن أن تكون هناك قطيعة بين “التيّار العوني” والحزب في ضوء اضطرار جبران باسيل إلى تفادي الذهاب إلى الجوهر. أين الخلاف ما دام صهر الرئيس السابق ميشال عون يجد نفسه مضطرّاً إلى الإشادة في كلّ وقت وفي كلّ مناسبة بما يسمّى “المقاومة”. هذه إشادة بسلاح الحزب غير الشرعي. يشيد رئيس “التيار الوطني الحر” بـ”المقاومة” مع تكراره لازمة أنّ الجيش عاجز عن الدفاع عن لبنان وحده… مؤكّداً بذلك نظريّة “الشعب والجيش والمقاومة” التي لعبت دوراً أساسيّاً في جعل لبنان دولة فاشلة… وتسهيل سيطرة دويلة الحزب على الدولة اللبنانيّة خطوة خطوة.
حيث لا يجرؤ جبران
بكلام أوضح، لا يريد جبران باسيل الذهاب بعيداً في مهاجمة الحزب الذي يخوض حرباً في جنوب لبنان غصباً عن رغبة معظم اللبنانيين، بمن في ذلك شيعة الجنوب ومسيحيّوه ودروزه وأهل السُّنّة فيه. كلّ ما في الأمر أنّ لدى الحزب أجندته الإيرانيّة، وكلّ ما عدا ذلك تفاصيل، باستثناء زواج المتعة الذي حصل بين العونيين والحزب. وكلّ ما عداه يدور في فلك لعبة لا أبعاد سياسيّة عميقة لها في ظلّ إصرار إيران على تكريس أمر واقع في لبنان.
ما على الطاولة حاليّاً رأس لبنان ومصيره وليس رأس “التيّار العوني” ومعه رأس جبران باسيل الساعي إلى إنقاذ مستقبله بأيّ ثمن
يتمثّل هذا الأمر الواقع في تحويل لبنان ورقة من أوراقها في المنطقة في سياق السعي إلى صفقة بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” و”الشيطان الأكبر” الأميركي. يؤكّد سعي إيران إلى مثل هذه الصفقة ما نشرته صحيفتا “فايننشيل تايمز” و”نيويورك تايمز” حديثاً عن مفاوضات غير مباشرة بين الأميركيين والإيرانيين انعقدت أخيراً في سلطنة عُمان بناء على طلب من طهران.
ثمّة كلمة حقّ تقال في ما يخصّ العلاقة بين الحزب و “التيار العوني”. لبّى الحزب، تحت لافتة السلاح يحمي الفساد، كلّ المطلوب منه بموجب وثيقة مار مخايل الموقّعة بين حسن نصرالله وميشال عون في ذلك اليوم المشؤوم، يوم 6 شباط 2006. أوصل ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهوريّة. وهو أمر لم يكن عون يحلم بأنّه سيتحقّق يوماً بعد كلّ الخيبات التي عاشها منذ رهانه على صدّام حسين في الأعوام 1988 و1989 و1990. وذلك عندما أقام في قصر بعبدا للمرّة الأولى بصفة كونه رئيساً لحكومة مؤقّتة لا مهمّة لها سوى انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميّل.
بعيداً عن “التيار العوني” المسيحيون إلى أين؟
بعيداً عن الهموم المباشرة للثنائي ميشال عون – جبران باسيل، لا مشكلة في ما آلت إليه العلاقة بين هذا الثنائي من جهة والحزب الحاكم في لبنان من جهة أخرى. هذه العلاقة محسومة. نفّذ ميشال عون كلّ ما طلبه منه الحزب في أثناء وجوده في قصر بعبدا طوال ستّ سنوات. قطع ميشال عون، الذي انهار في عهده النظام المصرفي، الطريق باكراً على أيّ تحقيق دولي في تفجير مرفأ بيروت في آب 2020. لم يخرج من قصر بعبدا إلّا بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل. كان ذلك بعدما دفعت إيران، لأسباب وحسابات خاصّة بها، في هذا الاتجاه. منذ بدأ عهده في آخر تشرين الأوّل 2016، لم يتردّد ميشال عون يوماً في تأكيد الحاجة إلى سلاح الحزب الذي يعرف الطفل أن لا قيامة للبنان ما دام هذا السلاح المذهبي موجوداً وموجّهاً إلى صدور اللبنانيين.
لا يريد جبران باسيل الذهاب بعيداً في مهاجمة الحزب الذي يخوض حرباً في جنوب لبنان غصباً عن رغبة معظم اللبنانيين
المطروح في لبنان سؤال في غاية الخطورة يتعلّق بمستقبل مسيحيّيه الذين عانوا في الماضي وما زالوا يعانون من ممارسات ميشال عون الذي نسي فجأة ما كان يقوله علناً عن نظرية “ولاية الفقيه”. نسي ذلك بمجرّد أنّ ميليشيا إيران لوّحت له بإيصاله إلى موقع رئيس الجمهوريّة. لا مفرّ من الاعتراف، في ضوء هجرة الشباب المسيحي، بأنّ الوجود المسيحي في لبنان صار في خطر. من يساعد قادة الزعماء المسيحيين في هذه المرحلة في فهم المعادلة الإقليميّة المعقّدة، خصوصاً بعدما ربط لبنان نفسه بحرب غزّة؟ من يساعدهم في استيعاب أن لا خلاص للمسيحيين من دون فهم المعادلة الإقليميّة من جهة، ومن دون قرار مسيحي – إسلامي من جهة أخرى؟
إقرأ أيضاً: تحايل لبنانيّ على الحقيقة والواقع والمنطق
لا حاجة في ظلّ الظروف التي يمرّ فيها لبنان. إلى مؤتمرات مسيحيّة يدعو إليها البطريرك الماروني بشارة الراعي أو غيره من أجل أن ينقذ رأس جبران باسيل، الذي وقعت عليه عقوبات أميركية. الحاجة أكثر من أيّ وقت هي إلى مؤتمر وطني ينقذ رأس لبنان بكلّ طوائفه ومذاهبه ومناطقه، وليس رأس هذا السياسي أو ذاك أو هذه الطائفة أو تلك. يبدو هذا الطرح مهمّة مستحيلة إلى حدّ كبير. خصوصاً أن لا وجود في الوقت الحاضر لموقف وطني جامع يقول إنّ سلاح الحزب في أساس كلّ علّة في لبنان. وإنّ هذا السلاح الذي يتسبّب بالويلات لأهل الجنوب خصوصاً للشيعة منهم، سيسمح لإيران بالتحدّث باسم لبنان متى انتهت حرب غزّة، أكان ذلك عبر مؤتمر دولي أو إقليمي.
لمتابعة الكاتب على X: