تحايل لبنانيّ على الحقيقة والواقع والمنطق

مدة القراءة 5 د

ليس ما يجبر لبنان على دخول حرب خاسرة سلفاً مع إسرائيل غير الرغبة الإيرانية في ذلك. ثمّة خوف لبناني من حرب يبدو البلد ذاهباً إليها في ضوء امتلاك إيران لقرار السلم والحرب فيه. يترافق هذا الخوف مع خوف آخر، حتى لا نقول جبناً، في مواجهة الحقيقة والواقع والمنطق. بدلاً من ذلك يوجد سعي دائم إلى التحايل على كلّ ما له علاقة بالحقيقة والواقع والمنطق عن طريق تدوير الزوايا مثل الذهاب إلى مجلس الأمن بغية تغطية العجز الرسمي اللبناني عن التصالح مع الذات قبل أيّ شيء آخر.

يؤكّد هذا الواقع، الذي يبدو قدراً، إصرار الحزب، من منطلق أجندته الإيرانيّة، على توريط لبنان في حرب كارثيّة مع إسرائيل في ظلّ صمت رسمي لبناني. يفعل ذلك في وقت تبدو إسرائيل في حاجة إلى مثل هذه الحرب من جهة وفي ضوء حاجة إيران، التي ليس الحزب سوى أداة من أدواتها في المنطقة، إلى إظهار قدرتها على توسيع حرب غزّة من جهة أخرى. تفعل ذلك من أجل إقناع أميركا بصفقة لا تستطيع القوّة العظمى الوصول إليها لسبب مرتبط بوضعها الداخلي قبل أيّ شيء.

أين مصلحة لبنان؟

من واجب الجهات الرسميّة اللبنانيّة الاعتراف بأن لا مصلحة للبنان في ربط نفسه بحرب غزّة. لا حاجة لديه إلى ذلك لا من قريب أو بعيد. أكثر ما يحتاج إليه لبنان هو فكّ ارتباط بينه وبين حرب غزّة، وهي حرب افتعلتها “حماس” في السابع من تشرين الأوّل الماضي من دون أن يكون لهذه الحرب أيّ أفق سياسي من أيّ نوع. صحيح أنّ حرب غزّة غيّرت إسرائيل نهائياً، لكنّ الصحيح أيضاً أنّها حوّلتها إلى وحش لا قدرة لأحد، بما في ذلك الولايات المتحدة، في ظلّ وضعها الداخلي، على ضبطه.

يحتاج لبنان إلى مصالحة مع نفسه أوّلاً. يكون ذلك عبر المرور في مصالحة مع الحقيقة والواقع والمنطق

لا تفسير لهذا الإصرار الإيراني على توريط لبنان واللبنانيين، بمن في ذلك أهل الجنوب، في حرب غزّة. عفواً، يوجد تفسير وحيد مرتبط بمصلحة إيرانيّة. تعود هذه المصلحة إلى تحوّل لبنان ورقة في يد “الجمهوريّة الإسلاميّة” تستخدمها كما تشاء من دون أيّ أخذ في الاعتبار لموازين القوى السائدة في المنطقة.

هذه موازين تصبّ في مصلحة إسرائيل على الرغم من أنّه لا يمكن الاستهانة بأزمتها الداخليّة. تصبّ موازين القوى في مصلحة إسرائيل نظراً إلى أن لا وجود لدولة عربيّة أو نظام عربي، مثل النظام السوري، على استعداد لخوض حرب حسب توقيت تفرضه “حماس” وأجندة الإخوان المسلمين وإيران…

الحقيقة

لا يريد لبنان التعلّم من الماضي القريب وتجاربه. لا تفسير لتصرّف مجتمع بائس لا يستطيع قول لا لحرب إسرائيل بناء على رغبة الحزب الذي ليس، للمرّة الألف، سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. ما العمل عندما تتكرّر في 2024 تجارب العامين 1968 و1969؟ ما العمل عندما لا توجد قوى سياسيّة تقول الأشياء كما هي، بما في ذلك أنّ الحزب يفتعل حرباً مع إسرائيل وأنّ هذه تردّ بوحشية ليس بعدها وحشيّة مستهدفة مدنيين وعناصر حزبيّة لا فارق. المهمّ بالنسبة إلى إسرائيل إظهار قدرتها على الردع، وهي مستعدّة لتدمير كلّ ما بقي من لبنان على رؤوس أبنائه ما دام يوجد من يقدّم لها المبرّر لذلك. لا حاجة إلى تقديم مثل هذا المبرّر في وقت لم يعد سرّاً أنّ في استطاعة الحزب، بما يملكه من صواريخ، إلحاق أضرار بإسرائيل، لكنّه لا يستطيع الانتصار عليها ولا يستطيع في الوقت ذاته تفادي تدمير ممنهج للبنان.

توجد ثوابت لا يمكن تجاوزها على الرغم من ترديد كلام لا معنى له عن أنّ إسرائيل تعتدي على لبنان منذ قيامها في عام 1948، علماً أنّ البلدين وقّعا اتفاق هدنة بينهما في عام 1949. توجد خلافات في شأن نقاط حدوديّة بين لبنان وإسرائيل. لكنّ من يتوصّل إلى اتفاق في شأن الحدود البحريّة بين البلدين لن يجد مشكلة في تسوية الخلافات المرتبطة بالحدود البرّية يوماً ما.

تقول الحقيقة والواقع والمنطق إنّه لا فائدة من ربط لبنان مستقبله ومستقبل أبنائه بحرب غزّة

من يحمي لبنان؟

الحاجة واضحة إلى حماية لبنان. من يحمي لبنان من الحزب وسلاحه الموجّه إلى صدور اللبنانيين الآخرين؟ هذا هو السؤال المطروح ولا سؤال آخر غيره. في عام 1967، لم تهاجم إسرائيل لبنان ولم تحتلّ أيّ بقعة أرض لبنانيّة بعدما امتنع لبنان عن المشاركة في حرب حزيران من تلك السنة. مع مرور الوقت، أصرّ لبنان في تشرين الثاني 1969 على الانخراط في حرب مع إسرائيل بعدما قرّر توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في ظلّ ضغوط داخليّة وعربيّة مورست عليه بعدما أُغلقت الجبهات العربيّة الأخرى كلّها. سمح ذلك الاتفاق للمقاتلين الفلسطينيين بشنّ عمليات تستهدف إسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان!

لم يجنِ لبنان من اتفاق القاهرة سوى الخراب. لن يجني من توريطه في حرب غزّة سوى مزيد من الخراب. تُوّجت الحروب التي شهدها لبنان منذ توقيع اتفاق القاهرة بوضع النظام السوري يده عليه. ما الذي سيجنيه الآن من وضع اليد الإيرانيّة عليه سوى مزيد من الخراب والدمار في وقت لا يجرؤ السياسيون على مواجهة الحقيقة المتمثّلة في سؤال بسيط: أين مصلحة لبنان، الذي لا كهرباء لديه والذي انهار اقتصاده ونظامه المصرفي، في دخول حرب مع إسرائيل بسبب غزّة ودعماً لـ”حماس” في غزّة؟

إقرأ  أيضاً: الدهاء الإيرانيّ… والتذاكي اللبنانيّ

يحتاج لبنان إلى مصالحة مع نفسه أوّلاً. يكون ذلك عبر المرور في مصالحة مع الحقيقة والواقع والمنطق. تقول الحقيقة والواقع والمنطق إنّه لا فائدة من ربط لبنان مستقبله ومستقبل أبنائه بحرب غزّة. الحاجة إلى بعض الشجاعة لإتمام مثل هذه المصالحة التي تعني بين ما تعنيه أن لا مصلحة لبنانيّة في البقاء في أسر أجندة إيران التي لا يهمّها ما يحلّ بلبنان واللبنانيين وسوريا والسوريين والعراق والعراقيين واليمن واليمنيين…

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…