ماذا ينفع كلام الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن أنّ حماس “تسبّبت بنكبة غزّة وفلسطين…”. الذي قيل بلسان حركة فتح عن حماس، بعد “خراب غزّة” وربّما عموم المشروع الوطني الفلسطيني؟
قالت حركة فتح في بيان ردّاً على بيان وقّعته حماس وفصائل موالية لها في غزّة اعتراضاً على تكليف محمد مصطفى تشكيل حكومة فلسطينية جديدة: “إنّ من تسبّب في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتسبّب بوقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في قطاع غزة، لا يحقّ له إملاء الأولويّات الوطنية”. واتّهمت “فتح” حركة حماس بأنّها “لم تشعر حتى هذه اللحظة بحجم الكارثة التي يعيشها شعبنا المظلوم في قطاع غزة وفي باقي الأراضي الفلسطينية”.
ماذا ينفع هذا التراشق غير المسبوق، أيّاً كانت دقّته، بعد تدمير مدينة غزّة، وقتل عشرات الآلاف من أبنائها وتشريد عموم سكّانها؟ لقد تميّز الموقف الفلسطيني بتغييب تامّ لخطاب التعقّل منذ صبيحة ذاك اليوم المشؤوم في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023).
كلّ شيء يومها كان يحثّ على الاستنتاج أنّ الأمور ذاهبة إلى ما هو غير مسبوق في تاريخ المواجهات بين إسرائيل وحماس.
حاول الرئيس عباس في لحظة ما خلال الأسبوع الأوّل من الحرب أن يرتقي إلى مستوى اللحظة التي يواجهها شعبه. لكنّه ما لبث أن تراجع. فبعد ساعات فقط على نشر تصريحات له أكّد فيها. ضمن مكالمة هاتفية أجراها مع رئيس جمهورية فنزويلا البوليفاريّة نيكولاس مادورو. أنّ “أفعال وسياسات حماس لا تمثّل الشعب الفلسطيني”. عدّلت “وكالة الأنباء الفلسطينية” نصّ الخبر حول الاتّصال. وحذفت الجملة المتعلّقة بأفعال “حماس” وأبقت على بقيّة النصّ الذي قال فيه عباس إنّ سياسات “منظمة التحرير” هي التي تمثّل الشعب الفلسطيني.
كان يمكن لموقف محمود عباس. الذي قيل على لسان حركة فتح. أن يكون لحظة التحوّل المنتظرة في سياق المشروع الوطني الفلسطيني
لماذا انتظر عبّاس كلّ هذا الوقت؟
لنتخيّل للحظة أنّ الرئيس عباس دعا حكومته، وأُطُر حركة فتح ومؤسّسات منظمة التحرير، إلى اجتماعات طارئة. وتنصّل الجميع من هجوم 7 أكتوبر. وأدان قتل المدنيين الإسرائيليين. ودعا الجامعة العربية إلى الانعقاد الفوري للتباحث. وصال وجال بين الأردن ومصر ودول الخليج العربي، لتحصين موقف الشرعية الفلسطينية. ولنتخيّل أنّ النخب الفلسطينية التي أفرزتها المحنة، قد جرى تفعيلها. لا للأداء الشعبوي التلفزيونيّ والاستعراضات الممجوجة. بل للدفاع عن حقيقة وأصالة المشروع الوطني الفلسطيني في وجه مغامرات حماس. كما في في وجه تغوُّل بنيامين نتنياهو وحكومة المجانين التي يرأسها.
لماذا انتظر الرئيس عباس كلّ هذا الموت والدمار ليطعن في تفرّد حماس. وليسأل إن كانت الحركة “شاورت القيادة الفلسطينية أو أيّ طرف وطني فلسطيني عندما اتّخذت قرارها القيام بمغامرة السابع من أكتوبر الماضي. التي قادت إلى نكبة أكثر فداحة وقسوة من نكبة عام 1948″؟
ماذا ينفع الكلام الآن؟
ما النفع الآن من تذكير العالم بأنّ حماس كانت ولا تزال عصا بيد نتنياهو يدقّ بها رأس المشروع الوطني الفلسطيني منذ منتصف الثمانينيات حتى اليوم. وأنّها “تقدّم الآن التنازلات تلو التنازلات (لإسرائيل)، بهدف أن تتلقّى قيادتها ضمانات لأمنها الشخصي. وتحاول الاتفاق مع نتنياهو مجدّداً للإبقاء على دورها الانقسامي في غزة والساحة الفلسطينية”؟
ما كان ينبغي لهذا الكلام السياسي الكبير أن يُقال من بوّابة الغضب على حماس لأنّها رفضت تكليف محمد مصطفى تشكيل الحكومة الفلسطينية. فهذا موقف، منصّته الأولى، الدفاع عن صورة ومستقبل ومرتكزات المشروع الوطني الفلسطيني السياسية أوّلاً. قبل الانتقال إلى إعادة إصلاح المؤسّسات وتفعيلها ضمن رؤية “خلاصيّة” للفلسطينيين. وبعيداً عن حسابات التكتكة السياسية وشهوات السلطة والحكم.
كان يمكن لموقف محمود عباس. الذي قيل على لسان حركة فتح. أن يكون لحظة التحوّل المنتظرة في سياق المشروع الوطني الفلسطيني الذي أضعفه الانقسام بين الضفّة والقطاع. وأنهكه انعدام المخيّلة السياسية نتيجة ترهّل المؤسّسات وفردانية القرار في رام الله. واستنزفه تغوُّل اليمين الإسرائيلي.
لم يستطع الرئيس الفلسطيني أن يفهم أنّ هجوم 7 أكتوبر هو هجوم على مسار السلام الناشئ في الشرق الأوسط
فلسطين أهدرت فرص الاستفادة من التطبيع
لم يستطع الرئيس الفلسطيني أن يفهم أنّ هجوم 7 أكتوبر هو هجوم على مسار السلام الناشئ في الشرق الأوسط. وخاصة مع إشارات المملكة العربية السعودية إلى انفتاحها على اتّباع المسار الذي شقّه “الاتفاق الإبراهيمي”. أُهدرت فرصة لأن تكون فلسطين، من خلال التجسير مع السعودية، في قلب هذا المشهد الإقليمي الجديد الذي لن يتوقّف تشكّله ولو تأخّر. لم يقتصر هذا الخطأ الاستراتيجي على تهميش فلسطين عن المشاركة في تشكيل ديناميكيات السلام في المنطقة. بل حرمها أيضاً الاستفادة من هذه التطوّرات لتعزيز تطلّعاتها الوطنية وتأمين موقع أفضل على الساحة الدولية.
لو قيل ما يقال اليوم فور حدوث 7 أكتوبر، لكان ممكناً تصوّر أنّ الفلسطينيين قادرون على صياغة استراتيجية موحّدة. ترتكز على الالتزام بالسلام والعدالة وتقرير المصير لا على صراعات السلطة والحكم. وأنّهم جاهزون لابتكار ما من شأنه أن يضمن استدامة مشروع وطني فلسطيني يلقى صدى لدى الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي، على حدّ سواء.
إقرأ أيضاً: هل “7 أكتوبر” كانت تستحقّ كلّ هذا الثمن؟
أمّا أن يقال هذا الكلام بصيغته الحالية الآن، فهو ممّا يفيد بأنّه مرتبط بالعقلية ذاتها التي أوصلت الفلسطينيين إلى ما وصلوا إليه. وبأنّه تعبير دقيق عن العجز القيادي التامّ الذي تختصره صورة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس.
لمتابعة الكاتب على X: