نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزّة، استثيرت حماسة الشبّان، وبخاصّةٍ ذوو الميول الإسلامية. وفي الثقافة الإسلاموية أولويّتان: العداء للعالم، والتمرّد على الدولة الوطنية. ولذا ينبغي الحذر، وبخاصّة أنّنا بحاجة شديدة إلى الدولة بعامّة، وإلى الدولة الوطنية الفلسطينية الآن وليس غداً حتى للخلاص من الاحتلال.
في الأيام الماضية عرض فلسطينيان بارزان هما ياسر عبد ربّه ونبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” وموقع “أساس” ذكرياتهما عن القضية الفلسطينية وياسر عرفات وأيّامه الأخيرة وغزّة. وذكريات فلسطينيين كبار مثل محمود درويش وإدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد عن بعضهم وعن الرئيس القائد. والذين عاشوا تلك الحقبة بين السبعينيات ووفاة عرفات ما ازدادت معرفتهم كثيراً. لكنّ ذكرياتنا أو ذاكرتنا تصحَّحت في الكثير من التفاصيل.
المسألة الوحيدة التي ما ازددنا معرفةً بها هي مسألة حماس في نشأتها وفي علائقها بالجمهور الفلسطيني وبحركة فتح وياسر عرفات. وهذه مسألةٌ شديدة الأهمّية لأنّ التفاصيل توضح كيف عملت حماس وإن بالتدريج أن تحلَّ محلَّ “فتح” ثمّ ياسر عرفات خلال سنواتٍ قليلة. فبعد فترة عدم تأكّد بين 1987 و1994 بدأت حماس تشنّ هجماتها الانتحارية بداخل الكيان مريدةً إفشال اتفاق أوسلو (1993). ثمّ كانت حماس بين الذين استخدموا السلاح في الانتفاضة الثانية (2000-2001).
الحماسيّون عندهم وثيقة أنّ أرض فلسطين وقفٌ لا يمكن التصرّف فيها، ولهم نصوص متشدّدة أخرى. لكنّ الاهتمام لم ينصبّ عليها لأنّ حماساً كانت تنقد الآخرين ومن ضمنهم “فتح” في استخدام العنف المسلَّح الذي لا يحرّر بل يزيد الآلام. وكلّنا يعرف أنّ حماساً في الأصل هي القسم الفلسطيني من حركة الإخوان المسلمين بالأردن. وما انفصلت عنها رسمياً إلّا في التسعينيات وعندما بدأت تستخدم السلاح. وإلى علائقهم بإخوان الأردن، رأينا لهم مكتباً بطهران عام 1997 أو 1998. لكنّ جماعات الحزب المسلَّح بلبنان كانوا يعتزّون بتنظيم الجهاد الإسلامي الذي يصرّح كلّ الوقت بعلاقاته بطهران.
نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزّة، استثيرت حماسة الشبّان، وبخاصّةٍ ذوو الميول الإسلامية
سفينة الأسلحة الإيرانية…
بالطبع تغيّرت علاقات الأجهزة الإسرائيلية بحماس بعد الهجمات الانتحارية في أواسط التسعينيات. وازدادت سلبيةً في الانتفاضة الثانية. لكنّ الإسرائيليين ظلّوا يعتبرون “التناقض الرئيسي” واقعاً بين “فتح” وحماس. وعندما جاءت السفينة الإيرانية المحمّلة بالسلاح عام 2002 اتّهم الأميركيون والإسرائيليون ياسر عرفات بها. مع أنّه من الواضح أنّها كانت آتيةً لحماس.
ياسر عبد ربّه يرى أنّ عرفات كان يتشدّد مع حماس في التسعينيات. ثمّ صار متساهلاً بعد عام 2000 وفشل المفاوضات الأخيرة مع كلينتون. والواقع أنّه ما كان عرفات ليتساهل. فتلك الفترة هي الأخطر لأنّ شارون أراد إلحاق القضية الفلسطينية كلّها بالإرهاب بعد إغارات عام 2001 على الولايات المتّحدة. صار عرفات أكثر حذراً تجاه استخدام القوّة. لكنّه صار أقلّ قدرةً وحيلة بعد تقدّم العلاقات الأميركية مع دمشق وطهران على مشارف الحرب على العراق. وما تجاوبت إسرائيل مع المبادرة العربية للسلام من بيروت عام 2002.
“خيار غزّة”… الإسرائيلي
إنّ البارز بين عامَي 2001 و2003 بدء تكوُّن “خيار غزّة” في العقل الاستخباري الإسرائيلي. عرفات في نهاياته. وقيادات “فتح” في غزّة ليست على ما يرام. وحماس قويّة في غزّة والأجواء الإسلامية سائدة هناك، فليخرج الإسرائيليون من غزّة (2005) ولتتصارع حماس مع فتح للسيطرة. وإذا نجحت حماس صارت فلسطين اثنين وانتهت القضية لأنّ العالم لن يسلّم لتنظيم ديني بالسيطرة على السلطة في الدولة الفلسطينية الموعودة. والشبّان الفلسطينيون الساخطون الذين نفد صبرهم لطول الانتظار سوف يسيرون وراء عنف حماس. فلا يبقى “شريك” للسلام غير محمود عباس الذي يمتلك “الشرعية” لكنّه لا يمثّل أحداً.
استولت حماس على غزّة عام 2007 بالقوّة. وكانت قد انتصرت في انتخابات عام 2006 فصارت لها شرعيّتان: شرعية الانتخابات وشرعية العنف التي يحبّها الشبّان المتحمّسون، ويهواها الإسلام الأصولي ضدّ “الأعدقاء” من شتّى الألوان.
بعد هجوم 7 أكتوبر بلغ توتّر الجمهور العربي أقصى ذراه بسبب أهوال الحرب الإسرائيلية على غزّة
في الشهور الأخيرة بعد هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) بلغ توتّر الجمهور العربي أقصى ذراه بسبب أهوال الحرب الإسرائيلية على غزّة. لكنّ الأكثر استثارةً واستشهاديّةً في الضفة الغربية وجهات مختلفة من العالمين العربي والإسلامي هم الشبّان ذوو الميول الإسلامية. فالاستهواء ممكن كما حصل في حالة داعش. لكنّ الأكثر هو تربيةٌ وتدريبٌ وتراكماتٌ. ولا ننسى أنّ الإسلامويّين فشلوا في كلّ مكان خلال قرابة عقدين، وتعرّضوا لضغوطٍ وملاحقات. والأهمّ أنّ مشروعاتهم للدولة الإسلامية ما حظيت بدعمٍ ولا شعبيّة لارتباطها بالعنف والخراب وسوء الإدارة. مع قضية غزّة حصلوا على العنف الساطع وبدوا معتدىً عليهم، كما حظوا بالشعبية التي افتقدوها في كثيرٍ من الأحيان.
إنّ الطريف أنّ تعاملاتهم الطويلة مع إسرائيل تخلّلتها ثلاث حروبٍ وهذه الحرب الرابعة. وفترات سلام طويلة تلقّوا خلالها أموالاً من قطر عن طريق إسرائيل. وهي ما أساءت إلى سمعتهم ولا بقيت في ذاكرة الناس.
يقال على لسان حماس إنّها موافقة على إنشاء حكومة تكنوقراط لكلّ فلسطين. فإذا كان ذلك صحيحاً، فهي بداية جيّدة
الخلاص بالدولة الوطنية
تنتشر التنظيمات المسلّحة في كلّ مكان. وكنا نعيّر الإيرانيين بميليشياتهم، فصارت لدينا نحن العرب ميليشياتنا وليست كلّها مدعومةً من إيران. وهذه الميليشيات هي الأكثر خطراً على الدولة الوطنية. فما رأينا ميليشيا أنشأت دولةً أو أسهمت إيجاباً في قيام سلطة منتظمة. والسلطة الفلسطينية كانت بدايةً وما تطوّرت كثيراً وخالطها الترهّل. أمّا سلطة حماس في غزّة فلا تختلف عن سلطة البعث أو الحشد الشعبي أو الحزب أو الحوثيّ.
كنت أستغرب إصرار إسماعيل هنيّة على ذكر الحوثيين والثناء عليهم وتهنئتهم في مناسباتهم. ثمّ ها هم يردّون التحيّة بمثلها في التخريب ببحر العرب والبحر الأحمر. فالميليشيات، والإسلامية أكثر من غيرها، تستحلُّ الانتهاكات بحجّة أنّ لديها أولويّات أهمّ. وأولويّتاها: معاداة العالم، وتخريب الدول الوطنية.
إنّ المهمّ الآن التنبُّه إلى هذا العامل الصاعد في فلسطين وغير فلسطين. فالدولة الوطنية في فلسطين هي الأولوية الآن كما في سائر أنحاء العالم العربي. حتى إنّ الخلاص من الاحتلال يرتبط بها. وما حصل في غزّة وما يزال يحصل هو درسٌ لا يجوز أن يُنسى. والإسلام ديننا. لكنّ الدولة هي لإدارة الشأن العامّ، وليس لتطبيق الدين!
إقرأ أيضاً: الحرب على الفلسطينيين: الغذاء لغزّة ورخصة القتل لإسرائيل
فالدين مطبَّق في عقائده وعباداته وأخلاقه. وها نحن جميعاً صائمون في رمضان. أمّا الدولة فنحتاج إلى بنائها اليوم قبل الغد وفي فلسطين قبل غيرها. أو تكون كلّ هذه الدماء قد ذهبت هدراً.
يقال على لسان حماس دون تأكيد إنّها موافقة على إنشاء حكومة تكنوقراط لكلّ فلسطين. فإذا كان ذلك صحيحاً، فهي بداية جيّدة. فما عادت قضيّة فلسطين تحتمل أيّ مغامرةٍ أو مخاطرة.
لمتابعة الكاتب على X: