الخطوط الأوّليّة لاتفاق هدنة وتبادل أسرى بين المقاومة في غزّة وإسرائيل، تضمّنت تنازلات من كلا الطرفين. فهل هي مؤشّر إلى تراجع قوّة المقاومة بعد ما يقارب خمسة أشهر من القصف والقتل والتجويع؟ بحسب آخر التقديرات العسكرية، فإنّ المقاومة تلقّت ضربات قويّة. ومع ذلك خسائرها محصورة، ولم تستهلك إلا جزءاً محدوداً من قدراتها.
يقول رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إنّه لا يمكن الانتصار على المقاومة في غزّة، إن لم يجتَحِ الجيش الإسرائيلي رفح في أقصى الجنوب، بمحاذاة الحدود مع مصر، حيث يحتشد مئات الآلاف من النازحين. ويوحي كلامه بأنّ المقاومة في الشمال والوسط وحتى في خان يونس، قد تفكّكت كتائبها، ولم تعد سوى مجموعات متفرّقة من دون خيط رابط، ولا تحكّم قيادة أو سيطرة على مهامّها.
في حين أنّ الاشتباكات استأنفت ضراوتها في أحياء مدينة غزّة نفسها. وهي موجودة في بيت حانون وبيت لاهيا في أقصى الشمال. فيما لم تتوقّف المعارك الالتحاميّة في منطقة خان يونس. وكان مفترَضاً أنّ القوات الإسرائيلية قد أنهت مهمّتها فيها. وبات لزاماً عليها استكمال الهجوم باقتحام رفح، وفق معادلة نتنياهو: “لا نصر من دون رفح”.
فما هي حقيقة الأوضاع العسكرية؟ وهل المقاومة في غزّة على وشك التلاشي كقوة منظّمة ومتماسكة؟ وهل أضحت مجرّد مجموعات متفرّقة تقاتل من خلف خطوط العدوّ؟ أم بحسب مصادر المقاومة نفسها ما تزال تحتفظ حتى الآن بأكثر من 70% من قدرتها القتالية كمعدّل وسطي بين الكتائب التي تحافظ على كامل قوّتها والكتائب التي فقدت 60% من قوّتها نتيجة المعارك القويّة؟
الخطوط الأوّليّة لاتفاق هدنة وتبادل أسرى بين المقاومة في غزّة وإسرائيل، تضمّنت تنازلات من كلا الطرفين
إعادة تشكيل وتكييف
تؤكّد مصادر المقاومة في غزّة أنّه مع توافر القوة النارية الهائلة لإسرائيل، التي صبّت حممها على مدن القطاع ومخيّماته وقراه، بما جعل معظم المنازل غير قابلة للسكن، مع اجتثاث البنية التحتيّة الضرورية، من مياه وكهرباء وصرف صحّي ومستشفيات، وتهجير مئات الآلاف من المدنيين إلى الجنوب، ومع استعمال أحدث التكنولوجيات العسكرية من رصد ومسح واستشعار، وارتكاب آلاف المجازر، فإنّ القيادة العسكرية للمقاومة ما زالت قادرة على إدارة المعركة بما يتناسب مع تحدّيات القتال وظروفه.
من المؤشّرات إلى التماسك الميداني، أنّ رواتب الأفراد من مقاتلين وموظّفين، ما زالت تُدفع في أوقاتها المحدّدة دونما تأخير. وأنّ المقاومة الفلسطينية أعادت تشكيل كتائبها التي فقدت قادتها أو هيئاتها القيادية، لا سيما في الشمال. حيث تركزّت الصدمة الأولى في الأسبوعين الأوّلين. وأنّ ألوية الجيش الإسرائيلي التي انسحبت في البداية من الشمال، تعود متوغّلة فيه مرّة بعد أخرى، من خلال استدراج المقاومة وقد نَصبتْ كمائن محكمة للجنود والضباط الإسرائيليين، فتوقع فيهم الخسائر الثقيلة في العدد والأعتدة، في حرب استنزاف مدروسة مسبقاً، ووُضعت لها السيناريوهات قبل هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
بات واضحاً منذ أكثر من شهرين، أنّ المقاومة في غزّة تكيّفت مع معطيات المعركة، واستوعبت الصدمات الإسرائيلية. لا سيما أسلوب التدمير الشامل بالاستعانة ببرنامج الذكاء الصناعي الذي يحدّد الأهداف بسرعة خيالية.
الأكثر إثارة للاهتمام، عدم انحصار الجهد القتالي بحركة رئيسية تمتلك معظم الموارد البشرية والمادّية. بل باتت كلّ الفصائل والتشكيلات منخرطة في المعارك من ضمن غرفة عسكرية مشتركة، توزّع المهامّ والمحاور والأسلحة، وتُشرف على الإعلام العسكري لكلّ الفصائل المشاركة في الدفاع عن القطاع… تتعدّد الأسماء وتتّحد المجموعات المقاتلة كجسم قتالي واحد، وفق استراتيجية جامعة. بحيث يؤدّي التنسيق الوثيق بين الفصائل إلى سدّ الثغرات المؤقّتة أو الخلل المستدام في محاور معيّنة بالاستعانة بمقاتلي فصيل آخر. وهو ما يساعد على تعويض الخسائر البشرية والتسليحية بشكل سلس وتلقائي.
تؤكّد مصادر المقاومة في غزّة أنّه مع توافر القوة النارية الهائلة لإسرائيل، أنّ القيادة العسكرية للمقاومة ما زالت قادرة على إدارة المعركة بما يتناسب مع تحدّيات القتال
كتائب متضرّرة نسبيّاً
بحسب تقرير ميداني تفصيلي، لأوضاع المقاومة في غزّة، وتحديداً الكتائب القسّامية في القطاع، يرجع تاريخه إلى 20 الشهر الحالي، فإنّ من المدهش مثلاً أنّ:
– كتيبة بيت لاهيا تحتفظ بـ 90% من قوّتها. ولم يستطع الجيش الإسرائيلي دخول المنطقة المكلّفة بالدفاع عنها، طوال مئة يوم من القتال. فيما تدّعي إسرائيل أنّ حالتها متدهورة.
– وأنّ كتيبة مدينة بيت حانون أُعيد تشكيلها أخيراً. بعدما عملت لأشهر خلف خطوط العدوّ، وتعمل حالياً بـ 80% من قوّتها. إذ تجنّب الجيش الإسرائيلي الصدام منذ البداية مع كتائب المقاومة. واكتفى كعادته بالسيطرة على مفاصل الطرق الرئيسية. وعمل على عزل المناطق بعضها عن بعضها الآخر.
وأنزلت كتيبة الفرقان التي تمثّل المقاومة في غزّة، ضمن منطقة الشيخ رضوان وما حولها، أفدح الخسائر بالألوية ومنها لواء الناحال. وبالوحدات ومنها وحدة الشيطيت 13 خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. وأُعيد تفعيلها أخيراً. وهي تعمل حالياً بـ 40% من قوّتها، بسبب تحوّل مهامّ مجموعاتها من الدفاع المباشر إلى العمل خلف خطوط العدوّ.
– كتيبة الشهيد سهيل زيادة التي تعمل في شرق جباليا وفي منطقتَي التفاح والدرج وتل الريس، ما تزال تحتفظ بـ 75% من قوّتها. على الرغم من أنّها تعرّضت لاجتياح شرس قبل الهدنة الأولى. فقاومت لواءين مدرّعين ولواء المشاة يفتاح ولواء الناحال من قوات النخبة. وتعرّضت كتيبة جباليا البلد لضغوط كبيرة من ألوية عدّة، منها جعفاتي. لكنّها تحتفظ بـ 85% من قوّتها.
– بالمقابل، فإنّ كتيبة الشجاعية كانت السبب في انسحاب لواء جولاني وإنهاء خدمة كتيبة 13 من اللواء نفسه. وما تزال تحتفظ بـ 55% من قوّتها.
– كتيبة صبرا تل الهوى التي يصنّفها العدوّ حالياً بأنّ حالتها متدهورة، ساهمت بالضربات القاسية التي وجّهتها المقاومة إلى لواءي الناحال ولواء 401 المدرّع. وتحتفظ بـ 60% من قوّتها.
أنزلت كتيبة الفرقان التي تمثّل المقاومة في غزّة، ضمن منطقة الشيخ رضوان وما حولها، أفدح الخسائر بالألوية ومنها لواء الناحال
كتائب كاملة وكتائب منحلّة
من كتائب المقاومة في غزّة التي ما تزال تحتفظ بكامل قوّتها:
– كتيبة الخلفاء الراشدين التي يقع نطاق عملها في مخيّم جباليا والقصاصين وأطراف مدينة غزّة. فما تزال تحتفظ بكامل طاقتها، وفق ما جاء في التقدير الميداني المشار إليه. مع أنّها قاتلت العدوّ لأربعة أشهر، لا سيما لواء جعفاتي، وتعمل حالياً بـ 60% من قوّتها.
– كما كتيبة الدرج والتفاح التي تتبع عملياً لكتيبة الشجاعية. ما تزال تحتفظ بكامل قوّتها على الرغم من خوضها معارك طاحنة مع اللواء 188 مدرّعات.
– وكتيبة دير البلح التي هي ركيزة دعم لمخيّمات المغازي والنصيرات والبريج. وأفشلت خطّة العدوّ عزل هذه المخيّمات عن محافظة خان يونس.
– وكذلك كتيبة جنوب خان يونس التي لم تكن قد تعرّضت حتى صدور التقرير لأيّ عمليات هجومية. وكتيبة رفح الشرقية التي تُشرف على المنطقة الممتدّة من المعابر غرباً حتى مطار غزّة المدمّر شرقاً. ولم تتعرّض إلّا لمحاولتَي اختبار من العدوّ وصدّتهما بالمدفعية.
– وكتيبة مخيم يبنا وتعمل في مدينة رفح، ومسؤوليّتها منطقة اللجوء.
تحوّلت الحرب إلى مواجهة غير متوازية من الجانب الإسرائيلي كذلك. في مقابل التكتيك المعروف للمقاومة في غزّة لتجاوز نقاط قوة الجيش النظامي بالاشتباك الالتحامي
– ومثلها كتيبة تل السلطان. وهي تعمل جنوب غرب رفح قرب الحدود المصرية.
– أيضاً كتيبة الشابورة التي تعمل في مخيّم الشابورة شمال غرب رفح، وفي نطاقها جرت عملية إسرائيلية لاستخلاص رهينتين.
ومن الكتائب التي تعرّضت لأضرار بالغة:
– كتيبة الشاطئ التي كانت تعمل ضمن مخيّم الشاطئ وصولاً إلى جنوب غرب بيت لاهيا، وقد حُلّت وضُمّت إلى الفيلق المركزي لشمال غزّة.
– ومثلها كتيبة شمال خان يونس التي كانت من أوائل الكتائب التي احتُلّت منطقة مسؤوليّتها. حُلّت ووُزّع أفرادها على المحاور والكتائب الأخرى.
إقرأ أيضاً: خطة نتانياهو لغزّة: يغيّر المناهج… ويكتب “خطبة الجمعة”
خلاصة الأمر: أنّ أكبر إنجازات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة، هو إيصال سكّان القطاع إلى حافة النكبة. ومحاولته قدر الإمكان تجنّب خوض معركة مباشرة مع المقاومة الفلسطينية.
وعلى هذا، تحوّلت الحرب إلى مواجهة غير متوازية من الجانب الإسرائيلي كذلك. في مقابل التكتيك المعروف للمقاومة في غزّة لتجاوز نقاط قوة الجيش النظامي بالاشتباك الالتحامي. أمّا المقصود بهدف القضاء على حماس، فهو بالمعنى السياسي أكثر منه بالمعنى العسكري.
لمتابعة الكاتب على X: