بات الحديث عن “وكلاء” إيران خطأً شائعاً تستفيد منه إيران. بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول)، فاضت دوائر الإعلام الغربي ومراكز البحوث بأدبيّات وصل بعضها إلى حدّ الافتراض أنّ طهران فقدت السيطرة على وحش “الوكلاء” الذي خلقته. وتستعمل واشنطن هذه الحجّة لتقول إنّها بوصفها دولة، تجيد التعامل مع دول، وترتبك في التعامل مع التنظيمات غير الدولتيّة، كوكلاء إيران.
ينظر كثيرون إلى ذلك بوصفه جزءاً من حملة إعلامية وسياسية مُنظّمة تهدف إلى تكريس الزعم بأنّ إيران لا تدير وكلاءها كما يُعتقد. تقود إدارة الرئيس جو بايدن هذه الحملة للدفاع عن قرارها بعدم استهداف ضبّاط الحرس الثوري، والاكتفاء بالتعامل مع الميليشيات.
نفوذ إيران بالوكالة
الخطأ الشائع هذا يفترض بأنّ ميليشيات إيران في لبنان والعراق واليمن وسوريا ليسوا أكثر من امتدادات وانعكاسات لنفوذها، غافلين عن حقيقة أنّهم في الواقع جزء لا يتجزّأ من الجهاز العسكري لإيران. فعلى الرغم من امتلاكهم لأجندات وطنية مستقلّة، ولهوامش تحرّك ذاتية، إلا أنّ توافقهم مع أوامر طهران يصبح بيّناً بما لا يدع مجالاً للشكّ عندما يتعلّق الأمر بالقرارات الاستراتيجية. تُبرز هذه العلاقة المعقّدة جانباً رئيسياً في معضلة استقرار الشرق الأوسط بشكل أوسع. فالقضية لا تتعلّق فقط بوجود ميليشيات داخل كيانات وطنية وحسب، بل في كون هذه الميليشيات تشكّل الذراع العمليّاتي لتحقيق الأهداف والطموحات الجيوسياسية لإيران.
قبل أسبوع واحد فقط من اندلاع حرب غزة، قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إنّ الشرق الأوسط يشهد أهدأ فتراته منذ عشرين عاماً. كانت المداولات السياسية تعجّ بالتفاؤل، بالإشارة إلى صمود الهدنة في اليمن، وتقلّص الهجمات على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، والحوار المثير حول التطبيع والسلام بين السعودية وإسرائيل.
بيد أنّ كلّ ذلك طار في الهواء يوم السابع من أكتوبر، حين أطلق هجوم حماس على إسرائيل حرباً مستمرّة إلى اليوم، يبدو أنّها تعيد تشكيل الملامح الجيوسياسية للشرق الأوسط برمّته.
صحيح أنّ الحزب يبدي مقداراً لافتاً من ضبط النفس إزاء ضربات إسرائيل غير المسبوقة، إلا أنّ دوره الأساسي في استراتيجية إيران لزعزعة استقرار المنطقة، بات يأخذ ملامحَ أكثر وضوحاً
في اليوم التالي أعلن الحزب الانخراط الفوري والأحادي في النزاع، من دون أيّ استفزاز من إسرائيل، مشيراً إلى أنّ المنطقة ذاهبة نحو تصعيد كبير. ثمّ، وخلال عشرة أيام فقط، أعلنت ميليشيا الحوثي والميليشيات العراقية، في 17 و18 تشرين الأول، عن دخولها المعركة عبر إطلاق المسيّرات والصواريخ والصواريخ الباليستية مستهدفةً السفن في البحر الأحمر ومدينة إيلات الإسرائيلية (من اليمن) والقواعد الأميركية في سوريا والعراق (عبر الميليشيات العراقية).
التحوّل الدراميّ
تُبرز هذه الأحداث المتسارعة خلال أقلّ من شهر من تقويم سوليفان، حجم التحوّل المفاجئ في واقع المنطقة، الذي وصفه وزير الخارجية أنتوني بلينكن بأنّه “الأكثر اضطراباً منذ عام 1973”. وهنا يُطرح السؤال: من الذي أدار هذا التحوّل الدرامي من شرق أوسط جديد كان يعِد بالأمل والاستقرار عبر التكامل السياسي والتعاون الاقتصادي، إلى حافة الانفجار وإحياء الشرق الأوسط القديم؟
الإجابة من دون تردّد هي إيران، عبر استراتيجية وحدة الجبهات التي سوّق لها الأمين العامّ للحزب حسن نصرالله.
صحيح أنّ الحزب يبدي مقداراً لافتاً من ضبط النفس إزاء ضربات إسرائيل غير المسبوقة، إلا أنّ دوره الأساسي في استراتيجية إيران لزعزعة استقرار المنطقة، بات يأخذ ملامحَ أكثر وضوحاً. من سوريا بعد عام 2011، واليمن بعد عام 2015، والعراق بعد اغتيال قاسم سليماني في عام 2020، تطوّر الحزب من مجرّد مشكلة لبنانية إلى مشكلة أكبر في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد تجلّى هذا التحوّل بوضوح بعد السابع من أكتوبر، حيث قاد الحزب بدقّة عمليات الميليشيات المدعومة من إيران، كما يدير صانع ألعاب جهود فريق كرة السلّة، مُنسّقاً الهجمات ومُعدّاً الخطط الاستراتيجيّة، وموفّراً لفريقه فرص التسجيل.
من الضروري أن تدرك واشنطن أنّ السلام في هذه المنطقة لا يتحقّق من خلال تدابير تبسيطية أو أحادية. بل يجب أن يبدأ من خلال معالجة جذور الأزمة بشكل مباشر
تبادل نصرالله والمرشد علي خامنئي التصريح حول تشجيع الحوثيين على الاستمرار في سياسة التصعيد في البحر الأحمر بعد الغارات الأميركية والبريطانية. وشارك أمنيّون من الحزب مع قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني في اجتماعات بغداد مع الميليشيات العراقية لضبط مستويات انخراطها في العمليات ضدّ القواعد الأميركية. فبعد اغتيال أبي باقر الساعدي أحد قادة كتائب حزب الله العراقي، بغارة أميركية، وهو أبرز قيادي في الحشد يُغتال منذ مقتل أبي مهدي المهندس، وجب إجراء إعادة تقويم قاده الإيرانيون والحزب معاً.
أمّا قبل هجوم 7 أكتوبر، فكانت بيروت تعجّ بالاجتماعات التمهيدية بين المسؤولين الإيرانيين وممثّلين عن الجماعات المدعومة من إيران، بما في ذلك حماس والحزب. ويشير اغتيال صالح العاروري، أحد العقول المدبّرة لهجوم السابع من أكتوبر، في معقل الحزب في ضاحية بيروت الجنوبية، إلى حجم الترابط بين من يسمّون الوكلاء، واندراجهم جميعاً في عملية تنسيق ومتابعة بالغة التعقيد. يُضاف إلى ذلك الوجود “الاستشاري” للحزب في اليمن لتنسيق هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، التزاماً بتوجيهات إيرانية علنية على لسان خامنئي، على الرغم من الجهود الدولية لتخفيف التوتّرات.
أميركا تُعفي إيران
بإزاء كلّ ذلك، دأبت الولايات المتحدة على إعفاء إيران من أيّ مسؤولية في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر، وما تلاها من تصعيد متعدّد الجبهات. وقد سبق هذا الموقف توجّه أميركي واضح يراهن على الحوار مع إيران كآلية لتثبيت الاستقرار في الشرق الأوسط. بيد أنّ الفجوة العميقة بين افتراضات واشنطن وما ترمي إلى تحقيقه، وبين الوقائع على الأرض التي يعرفها المسؤولون الخليجيون، لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، دفعهم إلى الانخراط في محادثات ومفاوضات دبلوماسية مع طهران وحتى مع ميليشياتها والابتعاد ما أمكن عن المواجهة المباشرة معها.
المعركة بين الشرق الأوسط القديم والشرق الأوسط الجديد ليست مجرّد صراع على مناطق جغرافيّة، بل هي صراع إيديولوجيّات ورؤى للمستقبل
ففي شهر أيار الفائت، أعلنت الإمارات انسحابها من “القوّة البحرية الموحّدة” التي تقودها الولايات المتحدة وتعمل قبالة إيران وفي مياه البحر الأحمر على حفظ الأمن ومكافحة الهجمات ضدّ سفن وناقلات نفط.
كما نأت كلّ من السعودية والإمارات ومصر بنفسها عن تحالف “حامي الازدهار” الذي أعلنته الولايات المتحدة، وهو تحالف بحريّ مصمّم لردع هجمات الحوثيين التي تهدّد سلاسل التوريد والتجارة العالمية في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن.
كان يمكن لذلك أن يُحسب في ميزان حسنات واشنطن، لجهة كونه يساهم في تعزيز الدبلوماسية والحوار في منطقة متفجّرة. بيد أنّ الحوار الخليجي مع إيران، الناتج عن حاجة الرياض وأبو ظبي إلى التحوّط الاستراتيجي ضدّ عدم ثبات ووضوح سياسة الولايات المتحدة، يعاني هو نفسه من ظاهرة “سرير واحد وأحلام مختلفة”. فالأحداث التي تلت السابع من أكتوبر لم تكشف فقط عن هشاشة السلام في المنطقة، بل سلّطت الضوء أيضاً على أنّ ما تريده إيران من الحوار هو غير ما يريده الخليجيون منه. يظهر ذلك جليّاً من خلال الدور الحاسم الذي تلعبه إيران والحزب في تخريب رؤية الشرق الأوسط الجديد، ومنع ولادته، بل واستيلاد نقيضه، حتى في ذروة الحوار العربي الإيراني.
أثبتت التجارب، أنّ نظام الملالي يفهم لغة القوّة. بيد أنّ طهران أكثر مهارة في فهم لغة الضعف، ولن تتورّع عن استغلال أيّ ملمح ضعف أميركي تكتشفه
إنّ المعركة بين الشرق الأوسط القديم والشرق الأوسط الجديد ليست مجرّد صراع على مناطق جغرافيّة، بل هي صراع إيديولوجيّات ورؤى للمستقبل.
وعليه من الضروري أن تدرك واشنطن أنّ السلام في هذه المنطقة لا يتحقّق من خلال تدابير تبسيطية أو أحادية. إنّ الطريق إلى السلام الدائم يجب أن يبدأ من خلال معالجة جذور الأزمة بشكل مباشر، أي إيران، والكفّ عن التذرّع باستقلالية وكلائها، أو التوهّم بأنّ الأخيرين يقومون بما يقومون به خارج رؤية وإرادة وإدارة طهران.
لن يستقرّ الشرق الأوسط في غياب استراتيجية أميركية أكثر نضجاً وواقعيةً تجاه إيران، تقوم على إنهاء الفصل المصطنع بين إيران ووكلائها، وبدء التعامل معهم ككيان موحّد.
إقرأ أيضاً: تقدُّم المشروع العربيّ لفلسطين على الإيراني… فرصة لرئاسة لبنان؟
أثبتت التجارب، إن كان بعد اغتيال قاسم سليماني، أو من خلال الضربات الإسرائيلية النوعية داخل إيران، أنّ نظام الملالي يفهم لغة القوّة. بيد أنّ طهران أكثر مهارة في فهم لغة الضعف، ولن تتورّع عن استغلال أيّ ملمح ضعف أميركي تكتشفه. وعليه، في غياب موقف أميركي يعترف بالعلاقة العضوية بين إيران ووكلائها، والاستفادة من مزيج من التدابير الدبلوماسية والاقتصادية، والعسكرية، إذا لزم الأمر، لتأكيد توازن القوى وتثبيت الردع، يصعب تخيّل شرق أوسط أكثر استقراراً وسلاماً.
لمتابعة الكاتب على X: