استعاد ناشطون تغريدة من العام 2016 للكوميدي البريطاني ريكي جيرفيز بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي دعا فيها بكل جدّية إلى حقن مرضى كورونا بالمعقّمات والمطهّرات لشفائهم من المرض. التغريدة فيها شيء من التنبّؤ إذ كتب جيرفيز: “حقيقة وجود تحذيرات من مثل “لا تشرب” على عبوات التبييض (الكلور)، تجعلني على يقين بأن دونالد ترامب يمكن أن يصير رئيساً للولايات المتحدة الأميركية”. فعلها ترامب، ونجح في الانتخابات، وصار رئيساً. ثم على أعتاب انتهاء ولايته صرّح بالكلام الغريب الذي تفوه به عن معالجة المرضى بالمطهرات والمعقّمات. والانتباه إلى مفارقة ما يكتب على عبوات الكلور شبيه بمفارقة الانتباه إلى أن أمثال ترامب يتزعمون العالم، وقس على ذلك لبنانياً. فأن يخرج رئيس الجمهورية ميشال عون بعد جلسة لمجلس الوزراء أقرّت خطة اقتصادية لإدارة الخراب، بتغريدة يقول فيها إن “اليوم هو يوم تاريخي للبنان لأنه للمرة الأولى تقرّ خطة اقتصادية- مالية بعدما كان عدم التخطيط وعدم استشراف المستقبل يوديان بالبلد إلى الخراب”، فهذا أشبه باقتراح ترامب حقن مرضى كورونا بالمعقمات.
إقرأ أيضاً: آخر نكتة: الإصلاح والتغيير صار عهداً قوياً!
الخطة تقترح شيئاً مشابهاً. تقترح أن تعالجنا بالوريد بما خصص للاستخدامات الخارجية. تحقننا بما يتفق العلم على أنه مضرّ وقاتل إذا دخل إلى الجسم، ومفعوله فقط مفيد في تعقيم اليدين والأسطح الخارجية. تحاول الخطة أن تصوّر لنا أنها تتضمّن الحلول وأن فيها الشفاء، مع أن كلّ المختبرات المالية وكلّ علماء الاقتصاد يؤكدون أنهم لم يتوصلوا بعد إلى علاج ولا إلى لقاح لفايروس الحالة الاقتصادية اللبنانية. ومع ذلك، يكفي أن يخرج الرئيس بتغريدة ليعلنه يوماً تاريخياً. وهو كذلك، لأن تاريخية هذا اليوم تستمدّ من التغريدة نفسها. سيجري تذكّر هذا اليوم في الأجيال المقبلة، على أنه اليوم الذي أعلنه الرئيس تاريخياً لمجرد اقرار خطة اقتصادية مبنية على افتراضات وعلى توقعات، ويصنّفها العقلاء من الحلفاء قبل الخصوم بأنها “مفخخة” وأن إيجابيتها تكمن في “إحصاء الخسائر”، لأول مرة في تاريخ لبنان! إنه يوم تاريخي، لأنه اليوم الذي دوّنت فيه حكومة العهد الحالية خسائر جميع الحكومات السابقة المتعاقبة التي أوصلتنا إلى هذا اليوم “التاريخي”. إنه يوم تاريخي، توثيقي لجميع الخسائر، أشبه بكتاب حسان دياب التوثيقي لـ”إنجازاته” في وزارة التربية. إنه يوم تاريخي على مقياس التاريخ الذي وثقه النمساوي إيريك دورتشمير في كتابه “دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ”، والذي وثق فيه “الأخطاء والأحداث التي صاغت العالم كما نعرفه الآن، لا كما خططنا له”، والذي تحكمت بصياغته مجموعة من العوامل غير المحسوبة. ألا يشبه تاريخ كهذا تاريخ رئيس جمهوريتنا الذي “خطط” لكلّ مستقبله السياسي ووصل إلى ما خطط له وسعى إليه؟
لا يمكن لمن اقتنع بأنه خسر كل شيء إلا أن يكون صريحاً وفجاً وحقيقياً. هذه تقريباً كانت حال عون وفريقه قبل أن يكون لديهم ما يخسرونه
يريدنا عون أن نؤمن به لانه فعلها. خاض حروباً وارتكب اخطاءً وفظائع وغباوات في السياسة والعسكر، ومع ذلك، وقف التاريخ في صفه. استطاع بعد سياق حافل بالفشل والانتكاسات والهزائم أن ينتصر وأن يصير رئيساً لجمهوريتنا. لعبت الصدفة، ولعب غباء الحلفاء والخصوم دوراً أساسياً في صناعة العامل الحاسم الذي أوصل الجنرال إلى قصر بعبدا. هل خطط الجنرال لكلّ هذا المسار؟ هل استشرف مستقبله ومعه مستقبلنا؟
لريكي جيرفيز مسلسل تراجي- كوميدي بعنوان “بعد الحياة”، من كتابته، وتعرض موسمه الثاني شبكة نيتفليكس يلعب فيه هو دور رجل يخسر زوجته بمرض السرطان ويعيش يائساً، ويصير شخصاً فظاً وصريحاً إلى أبعد الحدود لأنه لا يحسب حساب أحد ولا يهمه شيء بعد وفاة زوجته وفقدانه الأمل بالحياة، فيعبّر عن الأمور كما هي بفجاجة وبلا مواربة. لا يمكن لمن اقتنع بأنه خسر كلّ شيء إلا أن يكون صريحاً وفجاً وحقيقياً. هذه تقريباً كانت حال عون وفريقه قبل أن يكون لديهم ما يخسرونه. حينما كانوا تماماً خارج السلطة، لكن كلّ شيء تغير منذ وصولهم إلى السلطة في العام 2008. وحدهم من “يستشرفون” المستقبل ومن لديهم ما يخسرونه، يكذبون. لا يقولون الحقيقة المرّة. مع أنها مكتوبة على عبواتهم بشكل تحذيري واضح: “لا تشرب”. لكن كثيرين يشربون. ويتجشّأون!