يصعب جدّاً فصل مسار تأليف الحكومة عن حقل الألغام الذي يحاصر الحكومة العتيدة، حتّى قبل صدور مراسيمها.
هي الحكومة التي ستولد تحت سقف أزمة ثقة كبيرة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف. أزمة لم ينجح الوسيط الفرنسي في التخفيف من حدّتها. في مقابل أزمة صعوبة تعايش على خط بعبدا – عين التينة – المختارة، أجّجتها سياسة فتح الملفات في القضاء، حيث يتلاقى كلّ من نبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط عند اتّهام الرئاسة الأولى بـ “التآمر”، عبر استخدام قوانين أقرّت مؤخراً في مجلس النواب للانقضاض على “شركائها في الحكم”.
هؤلاء تحديداً من وصّفتهم مقدمة تلفزيون “OTV” المحسوبة على ميشال عون بالقول: “يشكون من الوضع السيّء. هي دموع التماسيح التي يذرفها أرباب السنوات الثلاثين التي أسّست للكارثة ومهّدت للمأساة على مستوى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية”!!
وتفيد معلومات في هذا السياق بأنّ ما يعتبره كلّ من بري والحريري وجنبلاط استغلالاً سياسياً من قبل رئيس الجمهورية وباسيل لقانون الإثراء غير المشروع، واستخدام قضاة على رأسهم مدعي عام جبل لبنان، لشنّ حملات ضدّ خصومه والانتقام وفتح ملفات بشكل انتقائي، سيُقابل بحملات مضادّة لكشف ارتكابات محسوبين على باسيل والفريق العوني.
هي الحكومة التي ستولد تحت سقف أزمة ثقة كبيرة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف. أزمة لم ينجح الوسيط الفرنسي في التخفيف من حدّتها
يقول مطلعون: “ستفرّخ “غادة عون” أخرى في المناطق حيث سيعمد قضاة ومدّعون عامون إلى فتح ملفات ضدّ باسيل وفريقه في الوزارات التي استلموها. وهناك ورشة عمل حقيقية في هذا المجال. إنّها “الفوضى القضائية” التي ستأخذ البلد نحو مزيد من الانقسامات”.
ويرى قريبون من بري أنّ “هناك أداءً خبيثاً من جانب القاضية عون باستدعاء الناس أيّام الخميس والجمعة حيث لا قضاة تحقيق للإمعان في أسلوب الانتقام”.
وهو واقع ينفيه قريبون من باسيل قائلين: “القضاء لا يدين من ليس مرتكباً. فليتفضلوا إلى التحقيق ونحن لا نفتري على أحد، ومستعدّون بوزرائنا والمديرين العامين والمسؤولين والموظفين المحسوبين علينا للمثول أيضأ أمام القضاء”.
يبرز في الجبهة المضادة لمحور عون – باسيل موقف جنبلاطي حاد عكسه بعض النواب مؤخّراً، منهم وائل أبو فاعور الذي ذهب إلى حدّ الكشف عن “اجتماعات تُعقد بين وزيرين سابقين وقاضية لفبركة ملفات ضدّ وليد جنبلاط. وإذا كان في عقلهم المريض يظنّون أنّهم سوف يطالونه بالتدقيق الجنائي فلن يصلوا إلى مكان”.
وربما أعطى أبو فاعور التوصيف الأمثل لجلسة مناقشة رسالة عون حول التدقيق الجنائي قائلاً: “رئيس الجمهورية ذهب نحو رسالة دعائية والرئيس بري بادله بجلسة بالمثل. هي جلسة نتائجها غير ذات قيمة”.
وتحدّث النائب بلال عبدالله عن “غرف سرّية في القصر الجمهوري”، جازماً أنّ “الانتقائية الكيدية التي يمارسها وزراء الصدفة السابقين والحاليين، للنيل من فريق سياسي نمثّله نحن، لن نسمح بها”. أما مصادر جنبلاط فتجزم: “لا عقدة لدينا في أيّ ملفّ خصوصاً المهجّرين. لكن هذا الملف يجب أن يفتح أمام قضاء مستقلّ وليس أمام غرفة تركيب ملفات للأخصام”.
يرى قريبون من بري أنّ “هناك أداءً خبيثاً من جانب القاضية عون باستدعاء الناس أيّام الخميس والجمعة حيث لا قضاة تحقيق للإمعان في أسلوب الانتقام”
ويبدو أنّ لقاء رئيس الجمهورية مع رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى يوم الثلاثاء قد شكّل الحدّ الفاصل لانطلاقة جبهة مضادّة بوجه الفريق السياسي لعون، المتّهم “بتحريض القضاء واستخدامه لغايات سياسية عبر فتح ملفات بشكل انتقائي وعبر ضغوط على قضاة”. مع العلم، أنّ رئيس الجمهورية، ومنذ تعطّل مسار التشكيلات القضائية قبل أشهر، رفض استقبال رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود.
تأتي في هذا السياق زيارة النائب نهاد المشنوق إلى برّي والمفتي دريان، بالتزامن مع حديث رئيس مجلس النواب عن “الاستعراضات الإعلامية والغوغائية والغرف السوداء”، حيث برز تقاطع حول ضرورة التصدّي لمسارٍ يقحم القضاء في مسلسل تصفية الحسابات.
وهو كلامٌ تقصّد برّي المجاهرة به عقب جلسة مناقشة رسالة عون بشأن التدقيق الجنائي رافضاً “المزايدات والنكايات والانتقاء من دون تدخّل بالقضاء… وبهذا وحده يتبين الغثّ من السمين والمرتكب من البريء”.
وحتّى الآن لم يظهر المسار القضائي الذي ستسلكه بعض الملفات المفتوحة، منها الادّعاء على قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي وسبعة ضباط كبار بموجب قانون الإثراء غير المشروع بناء على إخبار من الناشط العوني المحامي ديع عقل، وتقدّم هيئة القضايا في وزارة العدل، بناءً على ملفّ متكامل، بمثابة إخبار أعدّه الوزير العوني السابق غسان عطاالله، بشكوى أمام النيابة العامة التمييزية ضدّ 17 موظفاً في وزارة المهجرين بجرم الاثراء غير المشروع، بينهم المدير العام أحمد محمود. إضافة الى تسريبات إعلامية وسلسلة تقارير موجّهة تظهر وكأنّ هناك “أمر عمليات” بكشف ملفات لقوى سياسية محدّدة دون غيرها.
لكنّ مصادر نيابية شاركت في صياغة قانون الإثراء غير المشروع تؤكّد أنّ “القانون واضح لجهة الادعاءات. وهي تصدر من جهتين: الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي لم تُنشأ بعد، أو من جانب أحد الاشخاص المتضرّرين الذي يضع كفالة بقيمة 3 ملايين ليرة ويتقدّم بشكوى إثراء غير مشروع أمام القضاء”.
تضيف المصادر: “النصّ واضح، والدعاوى لا تتحرّك بموجب إخبارات كما يحصل في قضيتي الضباط ووزارة المهجرين. هناك رأي قانوني اليوم يقول إنّ قانون الإثراء غير المشروع لا يمكن أن يطبّق طالما لم تُنشأ بعد الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورأي آخر يقول العكس. وهذا الأمر يتطلّب ممن استدعُوا إلى التحقيقات، أن يدلوا أمام قاضي التحقيق بأنّ هذا القانون لا يزال غير كامل ولا يمكن تطبيقه بشكل جزئي. وهو نقاش لم يحسم بعد في أروقة قصر العدل وبين القضاة والمحامين”.
في السياق نفسه، توضح أوساط قضائية: “حتّى لو سلّمنا بنفاذ القانون فأيّ دعوى في شأن الإثراء غير المشروع لا تتحرّك إلا بشكوى مباشرة مقدّمة من أحد المتضرّرين مع وضع كفالة 3 ملايين ليرة. وهذا الأمر غير متوافر في القضيتين ما يعني إمكانية ردّهما بالشكل”.
وفيما يُفترض أن يمثل اليوم الضباط الثمانية، بينهم قائد الجيش السابق جان قهوجي، أمام قاضي التحقيق الأوّل في بيروت شربل أبو سمرا، بناءً على دعوى إثراء غير مشروع بحقّهم، تفيد المعلومات أنّه “لم يتمّ إبلاغ جميع الضباط بالحضور بسبب وجود بعضهم خارج لبنان. لذلك يمكن أن ترجأ الجلسة لإعادة اكتمال الخصومة، أي إبلاغ جميع المشمولين بالشكوى. كذلك هناك نقطة قانونية عالقة. فإذا كان هناك إثراء غير مشروع فهؤلاء لم يقوموا بعملية احتيال أو إثراء مشترك. وبالتالي فالجرائم المسندة إليهم ليست متلازمة. وهمّ ينتمون الى أسلاك عسكرية مختلفة. ولتطبيق القانون يجب فصل كلّ ملف على حدة والتحقيق بشكل منفصل”.
توضح أوساط قضائية: “حتّى لو سلّمنا بنفاذ القانون فأيّ دعوى في شأن الإثراء غير المشروع لا تتحرّك إلا بشكوى مباشرة مقدّمة من أحد المتضرّرين مع وضع كفالة 3 ملايين ليرة. وهذا الأمر غير متوافر في القضيتين ما يعني إمكانية ردّهما بالشكل”
ويرجّح، وفق المعلومات، إذا قرّر القاضي أبو سمرا السير بالدعوى (حتّى مع عدم إبلاغ الجميع) فإن المحامين سيأخذون مهلة لتقديم دفوع شكلية. ويمكن للقاضي أيضأ أن يأخذ قراراً بفصل الملفات وإعادة تبليغ كلّ ضابط على حدة، وإرجاء الجلسة الى تاريخ آخر”. يذكر هنا أنّ أوساطاً قريبة من بكركي تؤكد لـ “أساس” أن “لا ايعاز من جانب البطريرك بشارة الراعي لقائد الجيش السابق جان قهوجي بالتمنّع عن الحضور أمام قاضي التحقيق”.
وتتساءل مصادر قانونية: “هل يُطبّق على الضباط قانون الإثراء غير المشروع الصادر عام 2020 أو القديم الصادر عام 1999. فالإثراء، إذا أثبت حصوله، قد حصل في مرحلة ما قبل 2016 تاريخ إحالتهم الى التقاعد. يفترض عندها تطبيق بنود القانون القديم للإثراء غير المشروع، حيث تطبّق العقوبة الأخفّ. وفي هذه الحال نصبح خارج المهلة كونها جنحة تسقط بمرور الزمن بعد ثلاث سنوات”.
هنا تلفت المصادر إلى أنّه “إذا طُبّق القانون القديم تصبح كلّ قضايا الإثراء التي حصلت قديماً ساقطة بمرور الزمن. لكن هذا لا يمنع تطبيق قوانين أخرى على سياسيين وضباط سابقين مثل قانون الرشاوى وصرف النفوذ. ما قد يؤدي إلى تطيير الدعوى برمتها قبل الدخول في الأساس”.
أما لجهة الشكوى المقدّمة من هيئة القضايا في وزارة العدل أمام النيابة العامة التمييزية على 17 موظفاً في وزارة المهجرين. فتؤكد أوساط قانونية نيابية أن “لا صفة لهيئة القضايا بالادّعاء. ودعاوى الإثراء غير المشروع لا تتحرّك بموجب إخبارات. ولا بد من توكيل رسمي من وزيرة المهجرين أو من وزيرة العدل الى هيئة القضايا”.
وهنا يؤكّد صاحب الإخبار وزير المهجرين السابق غسان عطالله لموقع “أساس” “أنّه “بعد تعيين الوزيرة غادة شريم طلبت هيئة القضايا والتفتيتش موافقتها على متابعة الملف الذي كنتُ أعمل عليه داخل الوزارة. فمنحت موافقتها عبر كتاب خطي لهيئة القضايا”.
إقرأ أيضاً: ترقيات الضباط… أزمة من دون حلّ؟!
ويوضح عطالله: “للمرّة الأولى نعمل على ملف بحرفية عالية. لاحقتُ وتابعتُ الملف مع قضاة ومحامين كي لا ندعس دعسة ناقصة. واليوم يفتشون عن مخارج لكنهم يصطدمون بالحائط المسدود كون الملف مبكّلاً. هذه حقوق أناس من كلّ لبنان وليس الجبل فقط”، مؤكداً أنّه قدّم الإخبار “في تشرين العام الفائت إلى وزير العدل والأخير حوّله الى مدّعي عام التمييز ثم حولّه المدعي العام إلى القاضي غسان خوري الذي تنحّى كونه من الشوف، ثم استملت الملف القاضية كارلا قسيس. بالتزامن حوّلنا الملفّ إلى هيئة القضايا التي تتحرّك تلقائياً كون هناك هدر للمال العام. وهناك شكوى مباشرة من مواطن متضرّر. واليوم نشهد على محاولات لجرّ الملف إلى ملعب السياسة. هذا ملف فساد حقيقي يطال شخصياً وليد جنبلاط ومروان حمادة ونعمة طعمة وكلّ من تعاقب وعمل في وزارة المهجرين”.