لبنان: نتنفس أولاً، ثم نرى

مدة القراءة 5 د


زلزالان من نوعية مختلفة. 17 تشرين و4 آب. الأول انفجار شعبي غضبي عارم دام عدة أسابيع، ويعدّ استثنائياً بهذا الشكل وبهذا المدى في التاريخ اللبناني، وأوحى بأنّ ربيعاً في الخريف أزهرْ، حيث تداخلت الوقائع الانتفاضية مع الملابسات الانهيارية للنظام المصرفي والمالي، ووصول كبوة النظام السياسي إلى لحظة الانسداد الكامل دون أن يترتّب على ذلك انفراط عقد الدولة كجهاز، لا بل سيظهر جهاز الدولة من عام ونيّف حتى الآن عن قدرة غريبة على الاستمرار رغم انهيار الدولة كمفهوم. بات جهازاً لدولة غير مفهومة، دولة لا مفهوم لها.

والزلزال الثاني، كان جريمة وطنية عظمى: انفجار 4 آب. مع ذلك، ما لم تتمكّن وثبة 17 تشرين من إنجازه، من تأجيج متواصل لوثبتها ومن تثوير لنفسها، لم يكن إنجازه مقدّراً لانفلات سلاح دمار شامل، أو ما يعادله، من مرفأ بيروت في 4 آب.

حصلت في إثر 4 آب هبّة غاضبة محدودة، سرّعت في الدفع باستقالة حكومة حسان دياب الذي كان يتباهى بين الناس قبل ذلك بأسبوعين بأنّه حتماً لن يستقيل. “أنا لن أستقيل”، قالها تكراراً ثم استقال… لكنّه للآن، ما زال يصرّف الأعمال، وأعطى الإقفال الحالي للبلد في مواجهة انتشار فيروس كورونا، ما يشبه الإذن لإحياء الحكومة المستقيلة. فحتى استقالة دياب لم تنجز بالكامل إلى الآن

الزلزال الثاني، كان جريمة وطنية عظمى: انفجار 4 آب. مع ذلك، ما لم تتمكّن وثبة 17 تشرين من إنجازه، من تأجيج متواصل لوثبتها ومن تثوير لنفسها، لم يكن إنجازه مقدّراً لانفلات سلاح دمار شامل، أو ما يعادله، من مرفأ بيروت في 4 آب

وبما أنّ محاولة زرع مبادرة فرنسية قوامها تجهيز البلد لاستحقاقات صندوق النقد، وانبعاث “سيدر” من خلال حكومة منحّاة عنها القوى السياسية، لكن بقصد إخراج حزب الله منها فعلياً، فإننا عدنا إلى دوّامة حكومة تصريف أعمال “مستدامة” في مقابل رئيس جديد مكلّف. لكن يبدو أنّ الرئيس المكلّف هو مكلّف بعدم التشكيل، لأنه طالما أنّ سياسة العقوبات الأميركية متواصلة، ومروحتها متوسّعة، فإن تشكيل حكومة جديدة يبقى مؤجّلاً.

يمضي الشهر تلو الشهر، والحال على هذا النحو. تارة تكون المعزوفة الانتظار حتى الرئاسيات الأميركية، وتارة الانتظار حتى تسلّم جو بايدن مقاليد الأمور، وهكذا. مشكلة الانهيار الأساسية أنّه انهيار يراوح مكانه. يحول حتّى الآن دون تحقيق “عمل السالب”: السلبي الذي إذ يوغل بالسلبية يفرط التركيبة كلّها التي تحيط وتمسك بنا، ويفتح الباب مشرّعاً لحياة أخرى. لا يبدو أنّ ثمّة شيء من هذا القبيل. بل نحن نعيش في انهيار رخو، يعكسه خطاب “الثورة الرخوة.

تتزاحم على تدوير هذا الضجر مبادرات إصلاحية وإنقاذية، تنطلق من الأمور التي ما عاد جائزاً أن تبقى كما كانت قبل 17 تشرين و4 آب. كلها بصيغة “التداعي إلى”. كلها بصبغة التداعي. الانتفاضة التي كانت في الآن نفسه بنت الانهيار ونقيضته في العام الماضي، باتت أشباحها من مضاجر الانهيار نفسه.

مشكلة الانهيار الأساسية أنّه انهيار يراوح مكانه. يحول حتّى الآن دون تحقيق “عمل السالب”: السلبي الذي إذ يوغل بالسلبية يفرط التركيبة كلّها التي تحيط وتمسك بنا، ويفتح الباب مشرّعاً لحياة أخرى

في مكان ما، هذه نتيجة حتمية لرهاب الثورة الاجتماعية بحجة أنّ الأمور تُعالج وتُحسم بـ”السياسة”. لكنه في الوقت نفسه، رهاب الثورة السياسية بالتسابق على وضع “خطط لمراحل انتقالية”. هذا يطالب بالانتقال السلمي للسلطة إليه، وذاك يطالب بالتفكيك التدريجي لهذه السلطة وفقاً لروزنامة محدّدة بالنقاط، غبارية بالمضامين. غبار كثيف ينبعث من كلّ هذه المضاجر. لكن لا أحصنة، ولا حتى باب رهانات مفتوح على سبق الخيل.

إقرأ أيضاً: دولة التواطس على محك الكباش الماروني الشيعي

مشكلة فعلية في كلّ ما يطرح من مبادرات وأوراق، هي مشكلة الافتقاد للرابط بين تقييم واقع الحال وبين اجتراح ما ينبغي أن تكون عليه الحال. هذا قبل الدخول إلى نوعية التقييم أو إلى قيمة الاجتراح. الصلة المفقودة هذه مشكلة فعلية. مشكلة تفسّر الكثير من الشطط ومن الدوران في الحلقة المفرغة: حلقة عدم القدرة على إكساب الشكل مضموناً، أيضاً بسبب عدم القدرة على الوصل بين ما هو قضية اجتماعية وبين ما هو قضية سياسية. المشكلة أنّ هذه الأوراق والمبادرات تواجه في الوقت نفسه من أحزاب وقوى لم تفهم بعد أنّ 17 تشرين رغم كلّ الخيبات، هو واقعة أساسية حصلت، أو هي تحاول التحايل عليه. أن لا يكون 17 تشرين ثورة كاملة، وأن يكون انتفاضة محاصرة بالخيبات من بعدها، والحجر اللاصحي، وأن لا يكون النظام قد انهار بعدها، بل أخذ يباهي أكثر فأكثر بأنه نظام اللانظام، وبالتالي نظام غير معروض للإسقاط من أساسه، كلّ هذا لا يجعل العودة إلى أيّ من معادلات ما قبل 17 تشرين عودة مستقرة وممأسسة. وهذا مآل التشكيل الحكومي أمامنا. مرة يتولّى حلف الممانعة التشكيل، فتكون النتيجة ظهور نظام الحكومتين، حكومة حسان دياب التكنو ممانعة توازيها حكومة حاكمية المصرف المركزي، ومرة يحدث انفجار 4 آب والمبادرة الفرنسية المحكومة مسبقاً بالتعثر، فتكون النتيجة تساكن رئيس حكومة تصريف أعمال “دائم”، ورئيس مكلّف بعدم تشكيل الحكومة.

من هنا، أخذ مسافة اجتماعية شاملة عن كامل هذا المشهد بما فيه المبادرات المدنية التغييرية، بات ضرورة تنفّسية. نتنفس أولاً، ثم نرى. 

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…