لم يكن حدثاً عابراً أن تنقل مصادر دبلوماسيّة أوروبيّة لكبار المسؤولين اللبنانيين أنّ الاستمرار في تعطيل تشكيل الحكومة وعرقلة الإصلاحات المطلوبة على المستويين المالي والاقتصادي سيعني الاتجاه نحو فرض عقوبات أوروبيّة قاسية بحقّ المعرقلين، لاسيما أنّ هذه التسريبات تزامنت مع معلومات من الولايات المتحدة الأميركيّة تفيد بأن واشنطن في طريقها إلى الإعلان عن دفعة جديدة من العقوبات بحقّ العديد من الشخصيات السياسيّة.
وإذا كان اللبنانيون قد خبروا قسوة سوط العقوبات الأميركيّة مرّات عدّة خلال الفترة الماضية، فمن الأكيد أنّ دخول لبنان في دائرة اهتمام الاتحاد الأوروبي إلى حدّ التلويح بالعقوبات يُعدّ مسألة مستجدّة على الساحة اللبنانيّة، خصوصاً أنّ التلويح بالعقوبات بات مربوطاً بجملة من الشروط والإصلاحات التي حدّدها بوضوح الاتحاد الأوروبي لمن يعنيهم الأمر.
فطوال الفترة الماضية، راهن كثيرون على صعوبة وصول “الاتحاد” إلى مرحلة التلويح بالعقوبات بحق المسؤولين اللبنانيين، خصوصاً أنّ آليّة عمله تفرض مساراً طويلاً من إجراءات بيروقراطيّة ومفاوضات داخليّة في بروكسل، بهدف تحديد الأولويّات والأهداف النهائيّة قبل الشروع بأيّ خطوة قاسية من هذا النوع. لكنّ بيان مجلس الاتحاد الأوروبي الأخير أظهر أنّه بات يعرف بالضبط ماذا يريد من لبنان، خصوصاً أنّه حدّد أهدافاً ماليّة واضحة وملموسة، منها دعوته إلى إقرار قانون “الكابيتال كونترول” والشروع في التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وإقرار التشريعات المطلوبة لاستقرار النظام المصرفي. وذلك في إشارة إلى ضرورة إعادة هيكلة المصارف. مع العلم أنّ المجلس حدّد أهدافاً تشريعيّة أخرى، من بينها إقرار قانون شراء ملائم والموافقة على خطة كهرباء ذات مصداقيّة في مجلس النواب، بالإضافة إلى إنشاء لجنة جديّة لمحاربة الفساد.
إذا كان اللبنانيون قد خبروا قسوة سوط العقوبات الأميركيّة مرّات عدّة خلال الفترة الماضية، فمن الأكيد أنّ دخول لبنان في دائرة اهتمام الاتحاد الأوروبي إلى حدّ التلويح بالعقوبات يُعدّ مسألة مستجدّة على الساحة اللبنانيّة
الملفت في بيان المجلس الأوروبي هو انسجامه إلى أبعد حدود مع الشروط المعروفة التي وضعها صندوق النقد منذ بداية الطريق، والتي حملتها لاحقاً المبادرة الفرنسيّة في شقّها المالي الاقتصادي. مع العلم أنّ بيان المجلس ذهب في بعض المسائل إلى ما هو أبعد من موقف الصندوق نفسه، إذا طالب المجلس مثلاً بتدقيق جنائي في مصرف لبنان، في حين أنّ صندوق النقد اكتفى خلال مفاوضاته مع الوفد اللبناني بالمطالبة بتدقيق “شامل” في مصرف لبنان، تاركاً للدولة اللبنانيّة مسألة تحديد إطار هذا التدقيق وشكله بنفسها.
عكس انسجام شروط الاتحاد الأوروبي مع العناوين العريضة للمبادرة الفرنسية، ودخول هذه الشروط في تفاصيل الإصلاحات المطلوبة، وجود إجماع قوي داخل الاتحاد الأوروبي على طبيعة خارطة الطريق المطلوبة، ما يعني أنّ فرض العقوبات بات أسهل مما يعتقد كثيرون في حال تخلّف المسؤولون اللبنانيون عن تنفيذ هذه الشروط.
لم يكتفِ الاتحاد الأوروبي بالتلويح بالعقوبات وبتحديد ما هو مطلوب لتفاديها، بل بادر سريعاً إلى فتح مسارات كفيلة بالتمهيد لها. فكانت جولة وفد الاتحاد الأوروبي الذي يزور لبنان حاليّاً، بهدف التفتيش عن أموال الاتحاد التي صُرفت في لبنان في السابق، والتحقّق من وجهة الأموال والمساعدات التي صُرفت على مشاريع مموّلة منه، دون أن يتم تنفيذ هذه المشاريع وفقاً لدفاتر الشروط والمواصفات. مع العلم أنّ الوفد الأوروبي تعمّد في زياراته إلى المسؤولين اللبنانيين الخوض في مسائل أراد من خلالها إيصال رسائل تحذيريّة. فكان الحديث عن ملفّات الفساد وما يمكن أن تقدّمه أوروبا في مراحل لاحقة لتتبّع مصير الأموال المنهوبة في الخارج. كما حرص الوفد على معاينة مشاريع معيّنة مموّلة من الاتحاد الأوروبي كمعمل فرز طرابلس، للتثبّت من وجود شبهات فساد واسعة النطاق في التنفيذ والتشغيل، وإعداد التقارير اللازمة بذلك.
عكس انسجام شروط الاتحاد الأوروبي مع العناوين العريضة للمبادرة الفرنسية، ودخول هذه الشروط في تفاصيل الإصلاحات المطلوبة، وجود إجماع قوي داخل الاتحاد الأوروبي على طبيعة خارطة الطريق المطلوبة، ما يعني أنّ فرض العقوبات بات أسهل مما يعتقد كثيرون
باختصار، سيكون أمام الاتحاد الأوروبي الملفّات اللازمة لفرض العقوبات على المسؤولين اللبنانيين، من ناحية طريقة استعمال أموال ومساعدات الاتحاد الأوروبي نفسه. مع العلم أنّ ربط ملاحقة المسؤولين اللبنانيين بالفساد المتعلّق بالمساعدات الأوروبيّة، يعطي عقوبات الاتحاد الأوروبي المزيد من المشروعيّة، خصوصاً إذا كان الاتحاد قد عزّز ادّعاءاته بملفّات دسمة ومدروسة من ناحية الأدلّة، كما يعطي الاتحاد في مراحل لاحقة القدرة على إقحام المسؤولين اللبنانيين في مسارات قضائيّة داخل أوروبا نفسها.
إقرأ أيضاً: الخارجية الأميركية لـ”أساس”: لم يتم تأجيل أي لائحة عقوبات!
بالإضافة إلى سيف العقوبات الذي سيكون مصلتاً على رقاب المسؤولين اللبنانيين، سيستعمل الأوروبيون حكماً سلاح المساعدات الوازنة المرتبطة بالإنعاش المالي وإعادة الإعمار. فمساعدات مؤتمر “سيدر” لن تبصر النور في أيّ وقت قريب، وقد باتت مربوطة بشكل أساسي بنجاح مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الذي يتماثل مع الاتحاد الأوروبي والفرنسيين في شروطهما. أما المشاريع الإعماريّة في المناطق المنكوبة بانفجار المرفأ، فستظل أيضاً مربوطة بهذه الإصلاحات، وفقاً لسفير ألمانيا الاتحاديّة في لبنان.
باتت مبادرة ماكرون مدعّمة هذه المرّة بموقف جماعي من الاتحاد بأسره، بعصا العقوبات الغليظة الكفيلة بإخافة من يعنيهم الأمر، خصوصاً أنّ غالبيّة أصحاب النفوذ يملكون ما يكفي من استثمارات أو ودائع في الخارج ليخشوا عليها من سيف العقوبات. وبذلك، يكون ماكرون قد مهّد بعناية لزيارته المرتقبة إلى بيروت قبل نهاية الشهر. وربما تكون هذه هي “الهدية” التي وعد الشعب اللبناني بها خلال زيارته القريبة إلى لبنان.