أن تغرق في زحمة السير لساعتين بين بيروت ومعراب، حتى تلتقي رئيس حزب القوات اللبنانية لساعتين أخريين، يعني أنك محظوظ، فمشقّة السفر إلى مكان إذا طالت عن مدة المكوث به، انقلبت معادلة ضيزى. لكن برغم ذلك، فإن مشقّة الوصول إلى معراب قد تنساها وستشعر بأنها لحظات، لأنّك ستنسى كم مكثت، وستُؤخذ بحضرة المكان وبدفء اللقاء، وتنكبّ على الحديث عنها في طريق العودة.
ما إن تترك الاوتوستراد الكسرواني الساحلي صعوداً صوب سيدة حريصا، حتى تعرف بأنّ من تقصده لا يُحبّ الضوضاء والصخب الحَضَريّ، وإنما يفضّل الطبيعة الخلاّبة الجامعة لمشهد البحر ومناخ الجبل حيث الهواء النقي والصفاء والعيشة الجبلية الريفة الباردة التي تعكس البرود والهدوء في مواقف قائد “القوات اللنانية”. تصل عند تخوم معراب، فتستقبلك لافته تدعوك إلى التوجّه يساراً صوب “منزل سمير وستريدا جعجع”. هذه اللافتة تخبرك قبل أن تصل وتشاهد بأم العين، المكانة التي تحتلها ستريدا في حياة الحكيم.
بعد هذه اللافتة ترتقي صعوداً متعرجاً بين الأحراج، فتخال نفسك في ريف Berchtesgaden الألماني قاصداً D-Haus أو “البيت الدبلوماسي” القابع على قمة جبل Kehlstein الذي أسماه السفير الفرنسي أندريه فرنسواه بونسيه يوم التقى أدولف هيتلر عام 1938، بـ”عشّ النسر” (Kehlsteinhaus).
بعد 3 نقاط حراسة وتفتيش تصل إلى بيت الحكيم في معراب، حيث تستقبلك في نهاية المآل، بوابة حديدة فائقة الحجم تخالها portcullis لأحد قلاع انكلترا أو واحدة من أبواب الثكنات إبان الحرب العالمية الثانية، هناك تستريح على يسار البوابة الحديد الرمادية، شجرات معدودات من “أرز الربّ”. تلك التي تتوسّط علم “القوات اللبنانية” وتحرسه.
تعبر إلى الداخل من باب الحرس بمحاذاة تلك البوابة الصماء المقفلة، بعد إجراءات وقائية صارمة لكورونا ولغير كورونا. اجراءات تعكس حجم التنظيم والتدقيق الفائقين في عمق العقل المهجوس بالأمن والأمان، لكن في الداخل ليس كما في الخارج أبداً.
بعد 3 نقاط حراسة وتفتيش تصل إلى بيت الحكيم في معراب، حيث تستقبلك في نهاية المآل، بوابة حديدة فائقة الحجم تخالها portcullis لأحد قلاع انكلترا أو واحدة من أبواب الثكنات إبان الحرب العالمية الثانية
زينة الميلاد حاضرة في الفناء الخارجي، وأنطوانيت جعجع في الباحة الداخلية تستقبل ضيوف الحكيم بابتسامة عريضة دافئة، يمكن رصدها من خلف الكمامة السوداء وبمحبة فائضة. أما الزميل شارل جبور، فحاضر هو الآخر ليبادلك أطراف الحديث في السياسة وفي المواقف، إلى أن يحين موعد لقاء الحكيم الذي يلتزم بمواعيده بدقة “بيغ بن”. بعد دقائق، يفاجئك الحكيم بحضورٍ سلس وهادىء. يقبل من آخر الرواق منفرداً، عاقداً يديه خلف ظهره وكأنه يتنقّل من بيت إلى آخر في جرود بشري.
خلال اللقاء، تلفتك ذاكرة جعجع الثاقبة التي لا تنسى أي تفصيل. يكفي أن تُخبره باسمك ومسقط رأسك مرة واحدة حتى يحفظهما ويوجّه الكلام لك وللحاضرين بالأسماء، حتى لو كانوا بالعشرات. لا ينسى جعجع أي تفصيل، يحفظه ثم يعود إليه خلال الحديث. تلفتك أيضاً قدرته على الاصغاء واستيعاب النقد بهدوء، ثم تحويله إلى حجج وقرائن دفاعية. فأيّ نقاش مع جعجع ينتهي بك إلى قول تعبير واحد: “صحيح”، أو “معك حق”. هذا طبعاً ليس من باب المجاملة، وإنما بسبب قدرته على إقتناعك بالطرح أو بوجهة النظر التي يقدّمها، وكذلك بقدرته على الإيحاء الدائم بأنّ ثمة معطيات تخصّ هذا الملف أو ذاك، يصعب عليه إخبارك بها، حفاظاً على صداقة سياسية هنا أو احتراماً لمجلس مع آخرين هناك… فتقتنع.
في بيته، يبدو جعجع أكثر طبيعيّة من اللقاءات المتلفزة، فالمصطلحات الريفية والأمثلة البلدية محطّ كلام دائم لديه، فيما الصراحة هي الثابتة الدائمة في محاور النقاش معه. التحفّظ والدبلوماسبة اللذان أبداهما في أول ساعة من اللقاء، تحوّلا لاحقاً إلى ارتياح و”جلسة بين أصدقاء” كما أحب أن يسميها في أكثر من محطة. بل أعقب الدبلوماسية لاحقاً، بَوحٌ وكشفُ نقابٍ عن كثير من المواقف والملفات والمحطات في الساعة الأخيرة.
المنطق القواتي في ثناياه يخبرك، حتّى لو لم يجاهَر به في العلن، بأنّ القوات في حالة بحث دائمة عن شركاء. شركاء من كل الطوائف في المجمل. ربما وصلت القوات إلى هذا المبلغ، بعد أن اقتنعت بأنّ الأحزاب العابرة للطوائف كذبة تعكس عدم “صحّة التمثيل”، وليست قدرةً على الاختراق الفعلي، فانكفأت صوب بيئتها. أهمّ إشارة إلى هذا المنطق هي تجنّب الحديث عن الرئيس ميشال عون، وصبّ اللوم على ممارسات جبران باسيل.
حقيقة لا يخفيها جعجع، لكنه يردّها ضمناً إلى الواقع السياسي اللبناني، كما لا يخفي عطش القوات اليوم إلى شركاء ضمن باقي الطوائف. شركاء يشبهونها في المواقف الصادقة والمنقلبة على status quo الفساد والزبائنية. شركاء وجدت القوات أطيافهم في “ثورة 17 تشرين” لكنهمّ ظلّوا أشباحاً ولم يُستحضروا لاحقاً ولم يتمثّلوا بشراً سويا ضمن أحزاب أو مجموعات فاعلة ومنظمة، فبقي التحالف مع هؤلاء “شوارعي” على القطعة، يخص ساحات التظاهر ولحظات الغضب الشعبي.
في بيته، يبدو جعجع أكثر طبيعيّة من اللقاءات المتلفزة، فالمصطلحات الريفية والأمثلة البلدية محطّ كلام دائم لديه، فيما الصراحة هي الثابتة الدائمة في محاور النقاش معه
الاستنتاج يقود إلى أنّ القوات تبحث عن شريك سُنيّ، لكن مع الحرص على عدم قطع شعر معاوية مع الرئيس الحريري، وترك الأمر إلى خيارات الحريري نفسه الذي فضّل “صديقي جبران” على “سمير”.
لعلّ هوية الموقع (أساس) وخلفية أغلب كتابه وبيئتهم، كانت سبباً لإطالة أمد اللقاء إلى ما يربو على ساعتين، وتركت في نفوس الحاضرين هذا الانطباع. ربما توجه جعجع إلى بعضنا على أنّهم من “النُخب السُنّية” التي تتحمّل مسؤولية التفكير والبحث عن حلول للواقع السياسي المأزوم، تشي أيضاً بهذه الحقيقة.
إقرأ أيضاً: جعجع لـ “أساس” (2/2): التقدّم إلى الأمام يتطلب شركاء غير متوفرين
تشعر في ذلك من دون أن تسمعه. تقاطع ستريدا جعجع الخلوة بوشوشة سريعة تزرعها في أُذُن الحكيم. ربما أرادت إخطاره بأنّها ستغادر قلعة معراب، فأناقتها وحقيبة اليدّ في مرفقها تدلاّن إلى ذلك، أو ربّما أوصلت إليه معلومة. دخولها وخروجها كانا سريعين جداً لكنّهما باحا بالكثير، أخبرا الحاضرين بطبيعة العلاقة بين الزوجين. ربما الإطراء اللذي كالته لأفراد عائلة “أساس”، وارتياحها للوجوه، وغزلها الرقيق المهذب بأناقة الزائرين ولبسهم الشبابي “المفرفح”، عكس باطنياً أهمية الحديث وحجم اهتمام القوات بضيوفها، برغم انتشار كورونا وفي ظلّ قرار منع التجوّل.
معراب قلعة منيعة. لم تقوَ عليها محاولات القنص، لا السياسي ولا رصاصات صدّتها ورود الحديقة، ولا “العزل” الذي يحاصرها منذ بداية “العهد” وانفضاض حلفائها من حولها.
معراب لا تحب الوحدة… معراب تبحث عن شريك سنّيّ.