انتهى الأمر بالأوليغارشية المالية وحزب الله، اللذين انخرطا لسنوات في عملية أخذ وعطاء قاتلة، بجعل تعافي البلاد مستحيلاً. بعد أربعة أشهر من انفجار مرفأ بيروت، أُنهِكت قوى الإدارات الغربية.
في الدولة، ترتكز السلطة عادة على المؤسسات التي ينظّم الدستور عملها. إلا أنّه ثمة نظام، حيث تخفي المؤسساتُ والدستورُ هويّة الممسك الحقيقي بالسلطة: أسرة أو جيش أو حزب. علينا مراعاة هذا التمييز عند دراسة الحالة اللبنانية.
في حياته السياسية المضطربة، ومشهده الإعلامي المزدحم، ومجتمعه المدني المناضل، لا علاقة للبنان بالنظام المحيط به، أي سوريا. هي دولة متحجّرة، وضعت تحت نير “آل الأسد” وحاشيتهم.
لكن لبنان لم يعد دولة. أصبحت السلطة أكثر من أيّ وقت مضى في أيدي كارتل الأحزاب الطائفية، حيث يتعايش الوجهاء التقليديون وأمراء الحرب ورجال الأعمال السابقون. طبقة الأغبياء في السياسة العامة والعباقرة في السياسة السياسية. نظرًا لاهتمامهم الأساسي باحتفاظهم بالسلطة، فقد طوّروا فنًا لعرقلة المبادرات التي من المحتمل أن تضرّ بمصالحهم التي يدارونها كتحفة فنية.
في الدولة، ترتكز السلطة عادة على المؤسسات التي ينظّم الدستور عملها. إلا أنّه ثمة نظام، حيث تخفي المؤسساتُ والدستورُ هويّة الممسك الحقيقي بالسلطة: أسرة أو جيش أو حزب. علينا مراعاة هذا التمييز عند دراسة الحالة اللبنانية
إنّ المعركة الحالية حول التدقيق الجنائي لمصرف لبنان (BDL) تقدّم مثالاً ساطعًا:
تدعم رئاسة الجمهورية والحكومة هذا المشروع الهادف إلى تسليط الضوء على الثغرة الهائلة في القطاع المالي اللبناني. لكنّ “الفريق المصرفي”، الذي يخشى أن تجتاحه الكارثة، يبذل قصارى جهده لمنع هذه العملية.
وهكذا إذاً، من خلال سيطرتها المحكمة على البرلمان ووسائل الإعلام وحتى داخل السلطة التنفيذية، يمكن للأوليغارشية السياسية المالية أن تحقّق أهدافها.
حزب الله يغض الطرف عن الفساد
إنّ دفن عملية التدقيق من شأنه أن يضع حدًّا للتعافي الاقتصادي للبلاد، على المدى المتوسط على الأقلّ. ويعدّ إنجازها أحد الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي والمانحون لدعم خزائن البلاد. لكنّ “الدولة العميقة” أقوى من هذه الاعتبارات. هكذا يعمل لبنان كنظام. فالسلطة الحقيقية موجودة خارج المؤسسات.
تدعم رئاسة الجمهورية والحكومة هذا المشروع الهادف إلى تسليط الضوء على الثغرة الهائلة في القطاع المالي اللبناني. لكنّ “الفريق المصرفي”، الذي يخشى أن تجتاحه الكارثة، يبذل قصارى جهده لمنع هذه العملية
هذا النظام، وبخلاف النموذج المعمول به في المنطقة، له رأسان. وهذا ما يجعله في غاية المرونة. إلى جانب الأوليغارشية المالية، هناك حزب الله، القوة الموازية الأخرى. لقد تعلّمت الحركة الشيعية الموالية لإيران، وهي نصف ميليشيا ونصف حزب، تمويل نفسها خارج الدوائر المصرفية. فهي غير متورّطة بشكل مباشر في الانهيار المالي للبلاد الذي يؤثر على قاعدتها بشكل كبير. ولكن، تضامناً مع بعض حلفائه، يلتزم حزب الله الصمت. يغضّ حزب الله الطرف عن الفساد، وفي المقابل، تغضّ الأوليغارشية الطرف عن سلاحه. هي إذاً مسألة أخذ وعطاء.
هكذا أصبح لبنان وحشًا لا يمكن السيطرة عليه. منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، تعامل المجتمع الدولي مع هذا النظام المشؤوم. بل إنه مدّه بالتّمويل، من خلال تنظيم مؤتمرات لجمع التبرّعات، مصحوبة بوعود غامضة بالإصلاح سارع قادة البلاد إلى نسيانها بعدما دفع المتبرّعون شيكاتهم.
إقرأ أيضاً: بومبيو للفرنسيين: أنتم تسهلون إرهاب الحزب وتدعمونه
يبدو أنّ هذا الوضع يتجه إلى النهاية. الإدارات الغربية أُنهكت من هذا المنوال، وقد ألمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ذلك في خطابه أواخر أيلول، حين انتقد “النظام الخسيس – système crapuleux” في بيروت.
لكنّ الطبقة الحاكمة تواصل التصرف وكأن شيئًا لم يكن. فهي تستمرّ في المراوغات والافتراس والتجنّب. على هذا النحو، لن يُثير لبنان في القريب العاجل التوتر بل سيولّد الإحباط، والملل، وفقدان الاهتمام المهذّب. وهي أسوأ عقوبة لبلد افتُتن به العالم ذات يوم.
لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا